الادب تعبير عن فلسفة الوجود وصراعات النفس الانسانية.. لافراغ شحنة تتعلق بموقف .. والابوذية بابياتها وقفلها يغلب عليها الحزن والبكاء وبث اللوعة والالم والمعاناة مع مبالغة في وصف المشاعر والاحاسيس..

العشـگ ياناس للعشاگ يدها

اشحلاتك يانكش بجفوف يدها

احبها ابيوم ابوها ابظهر يدها

او تحبني ابيوم ابوي ابظهر ابيه/ ص379

انها باب من ابواب الابداع الشعري الممتد بجذوره المتشابكة واعماق التاريخ ..اذ كتبت اولا بالفصحى معتمدة الطباق مرة والجناس اخرى..

وهبت القلب مـقـرونا بروحي

لسمراء تمـادت في جروحي

زادت في الجفا حزني ونوحي

فكان الصـد للغـيـر سجـيـة

وقول آخر في الجناس..

منية النفس كفاها كفاها

يتوق الورد للعطر كفاها

اذا ما أومأت يوما كفاها

يصار الصخر ازهارا شذية

ثم استقرت شعبيا مع ميل الى استعمال الجناس الذي يعني (تشابه الالفاظ في النطق واختلافها في المعنى).. كقولنا..

سناها للـبـدر يشبـه وسنـها /عمرها

عقيق او برد بشـفاها وسنها / السن

اود عيني ابسبب عافت وسنها / النوم

والوم اعله العگل چـي ثبت ليه

وبذا صارت شكلا فنيا ينظم على بحر الوافر (مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن) وتتكون من اربعة اشطر ثلاثة منها بجناس واحد والرابع القفلة الذي ينتهي بـ(يه) كما في (ابيه ـ سجيه ـ شذيه..)..

 ويعد علي الخاقاني اول من صنف الابوذية الى مطلق (ينظم دون النظر الى غيره من الشعر.. ) والتي تنطلق مصورة ذات الشاعر حسا وخيالا .. كما مر آنفا..

ومولد (وهو الذي يأخذ جناسه من كلمة في بيت فصيح ويضمن معناه..) لذا فهو يعتمد افكار الاخرين من شعراء الفصحى ويبني عليها ابوذيته كما في قول الشاعر..

ذلولي ما يجـد السـير ضلعـاي/ تعبان

انتخوا عني او مد البصر ضلعاي/ العجاج

مثل كسر الزجاج انكسر ضلعاي/ الضلع

ابد ما يرهم التجـبـيـر بـيه

وهذا مولد من قول الشاعر:

ان القلوب اذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يجبر

بعد ان جمع علي الخاقاني منها آلاف الابيات نتيجة تنقله في مناطق الفرات الاوسط والجنوب معاقل الابوذية في العراق.. وقيل ان اول من نظمها تامة مجنسة موزونة حسين العبادي حين خاطب زوجته :

ترف بهواك من مثلي ولهدوم

ابثناياها الخـلل بين ولـهدوم

أمل الفرس لو كبرت والهدوم

اشبصرك برذعة النامت عليه

ومن انواع الابوذية المشط اذ فيها تتداخل مجموعة من الابوذيات فتشكل كل واحدة باشطرها الثلاث بيتا واحدا ومن ثم القفل كما في قول احدهم..

همت عطشان يم جرفه وردنـي/ ارجعني

وتالي اسموم من هجره وردنـي/ سقاني

دمعـتي بلـلت زيـجـي وردنـي/ ردن الثوب

ابشرك حبها غفل روحي صـدلها/ صادها

او علي حسرتي ابكل وادي صدلها/ صدى لها

عله حالي التـفت كتـلـه صـدلها/ انظر لها

لا منـي سمـع شكـوى ولا حـن/ حنان

احلفت ما طـخ اله راسي ولا حـن/ احني

ايـام الجـفـه حـلـن ولا حـن/ ظهرن

العطـش اهون ولا منته عليـه

وهناك الابوذية السداسية التي تتكون من ستة ابيات خمسة بجناس والسادس القفل.. والمطشر(المنثور) (ذو المقاصير).. اذ الشطر الثالث يتضمن عدة تفعيلات تشكل صورا شعرية لغرض الاطالة واضفاء الجمالية.. كقول الشاعر حسين العبادي:

حجت والدر تناثر منشفتها

شهيت اوتاه عكلي منشفتها

(لاهي النار)

(لاهي النور)

(لا هي الطير فوك اوكور)

(لاهي النازله امن بحور)

ولا هي اللبسوها منشفتها

بلوه او غضب من رب البرية

وهناك المطرز (المضمن) الذي فيه الصنعة واضحة.. اذ يبدأ كل شطر بحرف من حروف اسم شخص ما كما في قول الشاعر هاشم الفريجي:

هله ابطبتك يناهي يـوم طبـيت (الـهاء)

انا لجلك جثير ادمـوع هلـيت (الالـف)

شكول اعله الفرح بجفاك هليت (الشين)

مريض اموسد افراش المنيـة (الميـم)

وللشاعر البناء القيسي في الابوذية المقطع :

(ها نار) الكلب (ها سرت) هاجت

( ها باريـت ) ها (لظعون) هاجت

(هـا تمـدح) بنا (هـا تـذم) هاجت

(ها ترحـم) او (هـا تظـلم) عليه

والدكتور هاشم نعمة غالي الفريجي في كتابه (نقد الشعر الشعبي العراقي) الابوذية / اولا.. يعد دارسا تحليليا وموثقا تاريخيا.. اذ فيه يدرس تاريخ الادب الشعبي العراقي عموما والابوذية خصوصا متناسيا اغراضها واطوارها.. ثم يعرج على الجناس وتأثيره على القافية مع ذكر ما يقارب مائتين وتسعين بيت ابوذية لعدد من كتابها ابتداء من (حسين العبادي ومرورا بالحاج زاير وابو معيشي وعبدالصاحب الحلي وكاظم آل منظور وكاظم السلامي وعبدالرحمن البناء والحاج غانم المطيري والحاج زاير الدويج والحاج مرهون الصفار وحسن الظالمي وجواد الطالقاني والشيخ عبدالامير الفتلاوي وعبدالرزاق السامرائي وحسين الكربلائي وعبدالسادة العلي العماري وعبدالحسن المفوعر والشيخ خزعل وغيرهم... والتي تضمنت اشارات شعرية تفرض حضورها البليغ لتفتحها على موسيقى هادئة ومضامين انسانية ومعان سامية توزعت في اغراض مختلفة.. فكانت مقاطع شعرية محملة بنفس شاعرية متحولة من الذاتية الى الموضوعية حاملة صورا.. وكاشفة عن اخيلة بعيدة المدى.. كما في قول احدهم:

ثلاثـة والثـلاثـة بسم واحد

او واحد ما يعرف اهموم واحد

واحد بالسما اوبالارض واحد

او واحد غاد بـديار الـوطـية

فجناس الابوذية مفرد وبنفس المعنى (واحد) وهذا البيت في الالغاز اذ يسأل عن ثلاثة اشياء لها نفس الاسم. فواحد في السماء(برج الميزان) والاخر في الارض (الميزان) والثالث في (ديار الوطية) اي القبر وهو ميزان الاعمال..

فضلا عن لغة سهلة ممتنعة مع ايحاءات ذكية ورموز ولقطات عاطفية واحساس متفتح.. يبهج النفس ويبهرها.. فالشاعر عندما يكتب عواطفه يفجرها بركانا من العواطف الانسانية الممتلئة بالدفء والحنان..

وحك امخدرات الحـجب بحـيار / حجر

عليك الكلب يا محبـوب بحـيار / بحيرة

لون كل جلب يعوي ارميه بحيار / حجارة

خلص ياصاحبي احيار الوطيـة /332

وهذا مستل من البيت الشعري القائل:

لو كل كلب عوى القمته حجرا لاصبح الصخر مثقالا بدينار

فالابوذية تعالج قضايا الانسان وهمومه بنغمة الحزن الطابع الذي يعكس الحالة النفسية للشاعر.. والشوق والحنين.. اضافة الى امتزاجها بالاحتجاج والرفض.. فكان كل حرف فيها مصباحا يشع.. وكل رمز اداة ..

راسي امن الهضم صارت وشيبي

ريت ابـعار عيـرتـني وشيـبي

ابشعـر راسي تـعيـرني وشيبـي

او وقار الشيب بيه ما درت هيه /152

فالشاعر يصور خوالجه الذاتية تصويرا سرديا معتمدا الحركة والحدث والحوار الداخلي (المونولوج) عبر نشر الصور الفنية التي يدركها الحس باستعماله تشبيهات بديعية تكشف عن مقدرة شعرية ذكية بانتقاء الشاعر الفاظه ومفرداته ليعيد بناء الصورة بتعابير شفيفة ذات معنى.. فيمنح متلقيه متعة الشعر ..كون البناء الشعري هو اداة الشاعر للتعبير عن احاسيسه وعواطفه.. باعتماد التشابيه الحسيه والنظرة الواقعية للحياة والاشياء والتوحد معها..

فالمقاطع التي انتخبها المؤلف مثقلة بالافكار المتمثلة فنيا بصياغة مضامينها صياغة تقتضي المنطق والعقلانية التي تفضي الى انسانية هذه المضامين.. فصورها تعتمد بناء فنيا يدلل على وعي الشاعر الذي استطاع عبرها من الموازنة بين الحسي والذهني والسير في اعماق نفسه وفق رؤية خاصة.. وطريقة تعبير مواكبة لواقع يعيشه الشاعر..

نويت امحيك من بالي وهملك

دليلي بعـد ما رفـلك وهمـلك

جنت سابح انوحنلك وهمـلك

تركتك من شفت ذاتك رديه /ص393

لقد كانت انتقاءات الفريجي نماذجا امتلكت تماسكها ووحدتها الفنية بجناساتها.. وصدق تجربتها وغلبة افكارها الواقعية مع تلقائية التعبير لفسح المجال امام جمالها الصياغي وترابط مضامينها الانسانية.. فشكلت لحظات شعرية خصبة وعميقة سارت مع التيار الدافق في موسيقاها ومفرداتها.. كونها بلاغة سياق وبناء وتركيب خالية من التجريد والتقرير والصورة المنعزلة.. تتفق والتطور الذوقي والاجتماعي مع نمو داخلي..

 وبذا قدم الدكتور هاشم نعمة الفريجي كشفا عن ابداع لن تستغني عنه الذائقة.. فحرك الذاكرة بفعله البحثي فخطت :

ابداعك للحـزن يا زيـن هاشم

اوجودك بالضمير يعيش هاشم

يناديني ابترافه ايكـول ها.. شم

حروف تشع ضوه يغطي البريه

عرض مقالات: