لنتأمل الصوت الذي يطلقه الملاح، وهو على سفينته في فضاء البحر، كأن هذا الصوت بلاغًا من الحوريات وهن يتغنين بالحب والجنس، مستدعيات عوليس الذي صم أذنيه بالشمع كي لا يسمع أصوات الحوريات. ومع ذلك كان الصوت يصل لملاحي السفينة بالرغم من سد آذانهم بالشموع أيضا. صوت البحر تعلله ماديته. كل شيء يصدر من البحر، أو يحتويه البحر، يحمل صفات البحر: الأسماك، والدلافين، والسفن، والمحار، وغابات الماء، والصخور، ومئات ممتلكات البحار الاخرى. كلها تحمل هوية البحر؛ مادة واسمًا وصفة. وعندما يستعيرها الشاعر، الفنار ، السفينة ، الشراع ، المحارة، الأعماق، فمادية صوره الشعرية هي البحر، وقد اسبغ على الصورة الشعرية كونية الماء. حتى لو كانت الأشياء صلبة أو سائلة، جامدة أو متحركة، فالمحارة لها اسمان: محارة ككائن، ومحارة بحرية كوجود ضمن فضائها. أما الصوت في الصحراء، فقد قيل انه صوت في البرية، الصوت المنطلق في الفضاء المكاني اللامكاني، أي غير المحدد بهوية ما. هذا الصوت الكلي، صوت الآلهة البشرية التي تنادي نفسها ساعة الخلق، إذ لا أحد يوجد غيرها كي تنادي عليه، كل ما في الصوت يذهب إلى الصحراء بعد أن ينطلق منها. يمكنك أن تصرخ، أو تغني، أو تهمس، لا شيء يحدد هوية الصوت. يمكنك أن تصمت، او تهمس، فكل الأصوات في الفضاءات الكونية متساوية. كل الاصوات مكتومة، حتى لوكانت أصوات صواعق وبراكين، ما يعطي الأصوات معنى، هو سماعها، ولما لم تسمع يبقى المعنى مدفونًا في تدرجات الصوت.
تنبئنا الأمكنة اللاأمكنة، كالبحار، الصحراء، الطرق السريعة، المطارات، أن الإنسان يحس فيها أنه ذات جماعية بلا هوية مفردة. ولذلك يمكن للواحد منا أن يختفي فيها دون ان يسال. لا معنى لأقوالنا في مثل هذه الفضاءات، دون أن تقترن بشواهد حسيّة تدل عليها. ولما كنا في اللامكان، فأي صوت أوتصرف يبدر منا لا معنى له، لأنه صوت غير موجه لجهة، كما لو كنت تصرخ في البحر أو الصحراء أو في طائرة محلقة. كل شيء يعود لذاتك، لا أحد يشاركك فيه،إلا إذا كنت تقصد شيئا ما.
في الشعر، دون غيره، تعيش الكلمات، الصور، لذاتها، لا علاقة لها بالصور الأخرى، لأن فضاء القصيدة الداخلي فضاء لا مكاني. كل الصور تتحرك في فضائها الكوني، مشكّلة كتلة جماعية دون أن تكون بينها أية روابط اجتماعية. لاحظ نفسك وأنت تسوق في طريق سريع، كل حركة هي ذاتية متعلقة بحركة الآخر، الذي يلتزم مثلك النظام، مع أنك لا تعرف الآخر، لا جنسيته ولا هويته ولا الى اين هو ذاهب. ما يظهر لك في الطرق السريعة ليس الأنا أو الآخر،بل يظهر النظام الذي يتحكم بالعربات. كذلك في المطارات، كل يحمل البولدن كارت هوية له، لكن هذه الهويات الفردية تصنع مجموع ركاب الطائرة، وتجمعهم في علاقات فضائها الكوني، وليس في علاقة فضائية خاصة بكل راكب. كذلك صور القصيدة، وأشياؤها، لا تعيش إلا مفردة، ففضاء القصيدة صحراء، أو بحر، أو سماء، أو مطار، أو عربة قطار، أو طريق سريع. ما يحكم وجود الصور في نظام ما، هو التنظيم الذي يخضع الجزئيات للنظام الكلي.، وليس لنظام خاص بكلامنا عنها.
يأتي قارئ القصيدة، أو الناقد، وهو يقرا القصيدة ويفصّل صورها وما تقوله، لا يهمه إلا الكيفية التي انتظمت بها صور القصيدة. أما معاني الكلمات والصور فلا حدود لها، كل قارئ يجد في كلماتها وصورها معاني مختلفة. ولكن جميع القراء يتفقون على أن هذه المعاني لم تصل لولا انتظامها في فضائها الداخلي. كما لو كانت العربة تسير على الطريق السريع بسرعة 180 كيلو في الساعة محتكمة إلى الخطوط التي تعيّن اتجاهها.
القصيدة عالم من الصور المترابطة بفعل معانيها، الفضاء وحده من يشكل لمعناها الكبير صلة لها بما نعيشه ونفكر فيه. وهذا الفضاء لا تسمع فيه صوت الصورة الصارخة وحدها، دون ان تتضافر كل صور القصدية، مشكلة صوتاً جماعياً واحداً. عندئذ ستكون الصحراء، البحار، المطارات، الطرق السريعة، الفضاء اللامكانية، سلطة،تخضع صور القصيدة لصوتها الكوني، أي صوت العالم المضمر في فضاء القصيدة.