من وجهة نظري فأنّ الصيف هو موسم الكتابة والرومانسية والإحساس بسطوة الطبيعة التي تبدأ دورتها الجديدة في فصل الربيع ثم الصيف حين تأتلق الشمس الساطعة وتبتكر البراعم الجديدة تفتحها. وحسب سكوت فيتزجرالد، فأنّك إذا ما رغبت بأن تبدو الأشياء أكثر رومانسية أكتب عن فصل الصيف. أما كارل كورت فيعتقد بأنّ أجمل الأوقات في السنة هو ما بعد ظهيرة صيفية، لأنّها تمنحنا المزيد من الضوء للقراءة. وبقدر تعلّق الأمر بعالمنا العربي، حيث تبالغ الشمس في سطوعها ويوغل البحر في تصعيد رطوبته ويلتهب أسفلت الشوارع ويحتدم البحث عن بقع الفيء الرحيم تحت الأشجار المتناثرة هنا وهناك، فالأمر مختلف تمامًا. وعندما كنت صغيرًا، كان الصيف فصلي المفضل للقراءة، حين يأخذ الأهل قيلولتهم في الظهيرات الملتهبة، أصعد إلى سطح الدار وأجلس القرفصاء في ظل نخلة تطلّ من بيت الجيران وأغوص مع أنّا كارنينا التي تلهب خيالي، وعيني مُعّلقة على سياج البيت المجاور، بانتظار بروز رأس فاطمة المتلصص على عزلتي. ولأن تلك الطقوس كانت تحدث دائمًا في فصل الصيف، وفي ظهيراته تحديدًا، فأنّني ما زلت أرتبط مع هذا الفصل برباط مقدّس، هو مزيج من الذكريات والعاطفة ولوعة المراهقة ومزق الجنون العابرة، بعد أن ملأت فاطمة الطفولة تلك رواياتي وعفّرت صدري بحكاياتها الساحرة، فطالما توعدتها، حين تمنّعت، بأنّني سأشبعها حبًّا وتقبيلًا في خيالي. أقصد خيالي الفادح الذي يلتهب دائمًا في الصيف. وما زلت حتى وأنا على أعتاب الكهولة، لم أشفِ غليلي من تعذيب فاطمة بحبي وانتهاك حرماتها وهتك سترها الذي طالما عذّبني. نعم بالنسبة لي الصيف الساخن ضرورة حتمية لإنضاج الأفكار وتبخر الصور في عوالم الخيال المطلق.
في حالتي تلك لا يعد الأمر انشدادًا إلى الماضي في الواقع، بقدر ما هو عودة الى البئر الأولى التي طالما ارتويت من مائها المغرين وبللت عروقي الجافّة وعقلي المتعطش لحكايا الطفولة السحريَّة المدهشة، حيث يندحر العقل وتمثل الرصانة ووضع اقنعة الرياء.
في آب ـ اللهاب ـ كما نسميه في العراق، حيث تنضج الأرطاب وتذوب المسامير في الأبواب من فرط الحرّ، تنضج، من بين ما تنضج، الحكايا وتتخثر العزلة اللازمة لاشتعال خيال الطفل الصغير في البيجاما المخططة وهو يعتلي سياجات البيوت ليسرق حبّات التوت أو طلع النخيل، متحملًا شكّات السعف المدافع عن ذلك الطلع كما تدافع القبّرة عن بيوضها، أو يقيم دارًا للسينما على سطح الدار من مرآة صغيرة ومصباح مجوّف مملوء بالماء ونتف من أفلام السليلوز التي يبتاعها من مشغّل السينما بعشرة فلوس، ليضعها مقلوبة على الشريحة ويحصل على صورة سبارتكوز بعضلاته المفتولة أو شمشون الجبّار بشعره الطويل، او يجلس كامنًا مع صائد البلابل المجنون في عمق البستان وهو يعلّق قفصه الفخ ويراقبه من بعيد لاهيًا بالعزف على الناي، يأكل الرطب وينتظر حتّى يدخل الذكر البلبل بغواية الأنثى، فيهرع مع ذلك الصائد إلى سوق الطيور كي يبيعه ويمنحه عشرة فلوس يبتاع بها خمس لقطات مثيرة لصوفيا لورين وهي في ملابس السباحة من مشغل السينما ذاك.
لم نكن ندرك ـ آنذاك ـ كيف تعمل المخيلة في الواقع وكيف ستخزن الذاكرة الطريّة تلك الصور لعقود طويلة من الزمان، قبل أن يبتكر العقل أساليبه الوقورة ويبدّد براءتنا الباردة في عز الأصياف.
وفي المحصلة، فأن شبح فتاة متطفلة وصيف واحد في الماضي كانا كافيين لأسري إلى الأبد وتحويلي إلى كائن صيفي تُعذّبه الكتابة.