شكل البعد الأيديولوجي مركز الثقل في النصوص، قد خصصته الشاعرة للدفاع عن الإنسان المظلوم والمضطهد، فعبّرت عن رؤاها اليسارية، وطموحاتها الثورية، والتزام وعيها السياسي والاجتماعي بالانحياز إلى الحياة، وقد هيمن هذا الالتزام على طبيعة تعبيرها الشعري، فعبّرت عن هموم وطموحات الإنسان العربي، ثم تجاوزته لتعبر عن هموم وطموحات الإنسان بشكل مطلق، ولا غرابة في هذا التعبير الانساني، فقد شهد العراق مدًّا أيديولوجيًّا ماركسيًّا عالميًّا، كغيره من الأقطار العربية منذ فترة الاربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين. وقد انعكس هذا المد على كثير من الأنواع الأدبية ومنها الشعر.
إن هيمنة هذا البعد في مجموعة (حوارات الصمت) يشكل مجموع رؤى الشاعرة تجاه كثير من القضايا التي تمس الإنسان، لا سيما ما يخص تحرير الأرض، وتحرير المرأة، والصراع الطبقي، والتحولات الاشتراكية وعلى الرغم من تشظي هذه الرؤى في نصوص المجموعة، نجد الاهتمام بالجانب الفني الذي تراوح بين مديات التعبيرية والرومانسية والثورية (الواقعية الاشتراكية)، فبقدر ما عبرت الشاعرة عن ذاتها، فإنها عبرت عن العالم المحيط بها أيضا، وهذا ما جعل الـ(أنا) التي تمركزت في الهم الذاتي، تغادر إلى الـ(نحن) في الهم الجمعي.
لقد جسدت الشاعرة معاناتها وتطلعاتها في العلاقة بين البعد الأيديولوجي والواقع المعيش، ووظفت إمكاناتها بهذا الاتجاه، إذ تجلّت خلجاتها النفسية، وأحلامها وآمالها، في فضاء كتابي، تدفقت صوره الشعرية المؤثثة بالتجربة والمعاناة، متوسلة أحيانا بتوظيف شخوص واقعيين، لهم فعل ملموس في الواقع المعيش، بوصفهم رموزا عالمية: مايكوفسكي، بوشكين، نيتشه، غاندي، بول إيلوار، نيرودا، ناظم حكمت، لوركا. أو شخوص فنية وروائية في لعب ترميزي، تسقطهم الشاعرة على الواقع: الموناليزا، آنا كارنينا، لوليتا، أو شخصوص أسطورية: فينوس، أفروديت، عشتار، هيراكليتس.
لقد شحنت هذه الرموز الفضاء الشعري الكلي للمجموعة، وطغت بنية الرفض عليها، وارتبطت عميقا بتمرد الشاعرة على الواقع المعيش، فشكل كل رمز من هذه الرموز وغيرها، معادلا موضوعيا مشحونا برؤاها وقدراتها في التعبير عن تجربتها الذاتية، وهذا هو ((البعد الرمزي العميق الذي يكشف عن حالة الشاعر بشكل مكثف من الناحية النفسية، ومدروس من الناحية الفنية، ونعني به طريقة خلق الصورة الشعرية الكلية وعلاقاتها الجزئية المحبوكة والعميقة)). وعند تتبعنا الصور الشعرية نجد أن الشاعرة بقدر تخلصها من الضبابية أو الإعتام الكلي، فقد تخلصت من التقريرية أيضا، واكتست الصور بغلالة شفيفة من الغموض الذي يحض القارئ على الولوج إلى داخله واكتشاف جمالياته، كما في قصيدة (أنشودة الليل) التي تراكمت فيها الصور، ومنحت القصيدة صورة كلية، صورة اقتراب السماء من البحر:
((في حلق السماء..، رحل القمر بعيدا عنها..، واهيا، متعاليا، فضفاضا، بهيبته رائعا، بنشيده المنشور على، بحر سماوات زرقاء، داكنة)) .
وصورة الدببة وأفعالهم التي سعت الشاعرة إلى تفعيل اللعب الترميزي فيها:
((اقتربت منه دببة متباينة، لتلتهم نشيد الصفاء الليلي العبق، دنت من بعضها، بهدوء جلل ساحبة أذيال شالها البلوري)) .
هذا اللعب الترميزي قاد النص من سواد الليل إلى بياض النهار، وعبر بوعي مؤدلج عن النتيجة الإيجابية التي تطمح إليها، كي تتخلص من درن الفساد والجور والظلم الذي جاء ملفعا بالسواد. كما أنها بهذا الاشتغال الصوري، تخلصت من كون هذه الصورة مجرد فعل تزييني، أو حلية بلاغية. وعلى الرغم من هيمنة البعد الايديولوجي ، إلا أن الشاعرة قد وعت مسألة تكرار الصور المأساوية الذي يضفي على القصائد طابع الرتابة، لذا فقد اجترحت صورا جديدة، ضج بها وجدان الشاعرة؛ مما جعل فاعليتها – أي الصور- تنبض بالحياة.
أما استبطان شعورها وحالتها النفسية فقد أدّيا إلى اختلاف أنماط الصور التي أثثت المجموعة، وعملت مع الإشارات والإيحاءات على بناء جمالية نصية عالية، لا سيما الصورة النفسية، وما يتبعها من مثيرات واستجابات، جسدت انفعالاتها وأحاسيسها التي عملت على اشتغال جوهرها الشعري؛ وتبعا لذلك، فكل صورة شعرية جاءت مؤثثة بمشاعر وأحاسيس شعرية تتجه نحو القارئ، وقد تمركزت هذه الصور في الصوت المأساوي الذي يعصف بالإنسان، فيتحول إلى تعبير متبرم وسوداوي كما في قصائد (لحظة سكون) و(بيت بلا ذكرى) و(تداعيات). وتداخل المستويات (التعبيرية والرومانسية والثورية) إلى الحد الذي لا يمكن الفصل بينهما إلا للأغراض الدراسية، وإذا كان هذا التداخل يشكل عبئا في التأليف الشعري، فإن مرده إلى الظروف التي أحاطت بالشاعرة، وجعلتها في أتون مجمرة، شكل الوجع الانساني وقودها؛ لذا فلا غرابة حين نمثل لأكثر من مستوى معين في قصيدة واحدة.
المستوى التعبيري
تشكل التعبيرية - برمزيتها ومخيالها المغامر في تشكيل الصور الشعرية- جوهر الانعكاس الحقيقي للعالم، وامتدادا لنفسية الشاعر، إذ تستقي معينها من الذات، وترتسم انعكاساتها على النص بلغة اللاشعور الدفين المختزن في الأعماق. وبسبب التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي شهدها الواقع الانساني، لاسيما الواقعين العربي والعراقي، انقلبت أغلب الموازين والقناعات الثابتة، وزعزعت ما هو قار في البنى المستقرة، وحصل الانقلاب على الذات وإليها. وتبعا لذلك فمن المنطقي أن يستخدم الوعي الكتابي تيارات وأساليب متعددة، كان لها التأثير الفاعل في تجاوز الاشتراطات الفنية التي تلائم تلك التحولات.
وعلى الرغم من أن كثيرا من المشكلات والقضايا التي شغلت عقول التعبيريين وقلوبهم، قد بليت وعفى عليها الزمن، وأن صرخاتهم المرتفعة، وشكواهم النبيلة، وكلماتهم وصورهم ورموزهم المتفجرة بالغضب والدموع، قد تبدو اليوم في عصرنا المتعقل الجاف، نوعا من السذاجة المضحكة أو المبكية، إلا إن جذوة الرفض والتمرد ستظل متقدة في الجوهر الشعري التعبيري وستظل فاعليتها في كل الأزمان باقية، لا تشيخ، ولا تموت؛ لاتخاذها الدفاع عن "الإنسان" المطلق في وحدته وعريه وبراءته وشوقه للمحبة والسعادة والسلام هدفها الأسمى في الوجود. فضلا عن الدعوة المخلصة إلى مجتمع جديد يحقق كرامته وكبرياءه، ويحميه من الذل والذبح والانكسار. فقد سعى الشعر التعبيري إلى ((تجاوز حدود الواقع بالإيقاع السريع المندفع، والصور القوية المجنحة، والانفعال المنغم، والرؤى الغريبة، والعاطفة المتفجرة، والصيحات الحادة، التي تكشف كلها عن جوهر الإنسان وحقيقته التي طالما حجبتها المدنية الآلية خلف قناع كثيف من التصنع والكذب والنفاق والغرور العلمي)).
ولو تتبعنا هذه الاشتراطات الفنية التي تمنح القصيدة أسلوبها التعبيري، لوجدناها متناثرة في أغلب قصائد المجموعة، فالصور الشعرية في هذه القصائد مرجل دائم، متدفق من أحرف الكلمات، للحب والكراهية، للخير والشر، فهي دائمة البحث في قاع نفسها عن لآلئ الشعر وماساته، تنحت مرمر كلماتها بمعول الحب، وتستعير من بتهوفن موسيقاه، وتطلب من نيتشه إرادته، وتزرع مفردات قصائدها مع أزاهير غاندي، وتغرسها في قلبها وهي تنوس بحكمة هيراكليتس، وجمال فينوس، فتشكل عقدا سماويا تتقلده الموناليزا، بهذا الاضطراب والتمزق. تشكلت القصائد، وأعلنت عن قسوة الحياة، كما في قصيدة (تداعيات):
حيث التناص يشير بطرف خفي إلى رواية "الشيخ والبحر" لهمنغواي ، في عدة مواضع.
المستوى الرومانسي:
لقد فعّلت الشاعرة في هذا المستوى علاقات الحضور والغياب، بوصفها جزءا من تقابلات أعم هي تقابلات الكون بأسره، ويؤدي الفقد والزوال دورا فاعلا فيها، ففي قصيدة (قلبي صدفة) نجد الزوال قد تمركز في رحيل العاشق، بينما الوجود قد تمركز في اللحن الذي يمطر حزنا:
((حبيبي، عصفور بريّ، يرحل كلما انظره، حينها تتساقط كل الساعات، قطرات مطر متعبة، تاركا لحنا خفيا، يتحول غمامة، تمطر حزنا)).
المستوى الثوري
ونقصد به المد الواقعي الاشتراكي الذي شكل مستوى من مستويات أسلوبها الشعري، وقد تجلى ذلك في قصيدة (بدون إتقان):
((المحبة إذا أتتكم، لا تتركوها، لا تنبذوها، لا تسحقوها، لأجل أن نعمل بإتقان)).
وبروح دفاقة، وأمل مستفيض، تؤجل الشاعرة مراسيم حزنها وهي تحض صديقها على منادمة كؤوس الحياة، والاحتفال بساعتهما المسروقة من فك الحزن والسنين، في قصيدة (لنؤجل مراسيم الحزن):
((لنؤجل، مراسيم الحزن، ونوقظ ساعات الفجر، فتتوج السماء جباهنا...، ولنغرق، في بحيرات الربيع الدافئة)).
وهناك ملامح أخر إذ كررت الشاعرة الجملة التي استوفت مفعولها عبر كاف الخطاب (أستحلفك) خمس عشرة مرة، أو كما كررت (ألا من مغيث). ثلاث مرات في قصيدة (ذات ليلة). كما كررت الحرف الذي يتضمن معنى النفي(لو) في قصيدة (لو .. لو) خمس مرات، وجاء على شكل لازمة قبلية، وهذا بحد ذاته ملمحا أسلوبيا آخر، فضلا عن الاغتراب، والقناع كما في قصيدة (هزار موسكو).
هذه النصوص في أرقى أحوالها، مستمدة من الحياة الواقعية للفرد والمجتمع، ويحيد عن الصواب من يتصور أن النص الذاتي، هو نص لا اجتماعي. فكل خلق نصي مهما كان نوعه وشكله، هو أحد الأشكال الإبداعية التي تنشأ في مضمار العلاقة بين الفرد والمجتمع، فإذا كان الفرد (الشاعر) هو جوهر علاقاته الاجتماعية، فكيف يكون نتاجه ذاتيا؟ وليس هناك من شك في أن الوعي الفردي يستمد جذوره وامتداداته من الوعي الاجتماعي، أي بمعنى أن وعي وضمير ونشاط الشاعر هي تعبيرات اجتماعية في تجليات ذاتية، والدلالة الاجتماعية للذاتي، موجودة إلى الحد الذي لم يعد فيه جائزا الشطب على جماليات ذاتية بحجة أنها غير اجتماعية وبعيدة عن الواقع.