(1) بحيرة البجع والبولشوي في الجبايش
لم أتعرف على المعماري العراقي الكبير خالد السلطاني وجها لوجه، لأن لقاءنا الأول لم يتحقق صدفةً بعد أن اخبرتني الكاتبة والتشكيلية العراقية أمل بورتر أثناء مشاركتنا في ملتقى المدى الثقافي الأول في اربيل بأن المهندس ( خالد السلطاني ) يبحث عني وكان هو مدعوّاً أيضا وأنه من المعجبين بكتاباتي، لكنه سافر ولم نلتق، غير أننا التقينا بعد ذلك عبر رسائل الياهو حيث تعاطف بشكل كبير مع حزني في قصيدتي ( ياسمين دمشق ) ومنذ ذلك النص توثقت علاقتي بهذه القامة المعمارية المبدعة والذي يعمل مستشاراً في الأكاديمية المعمارية الملكية في كوبنهاغن.
ومن خلال الرسائل المتبادلة عرفت منه أنه وضع التصاميم المعمارية للأجنحة الادارية لمبنى محطة الطاقة الحرارية في الناصرية وأخبرني أن التصاميم التي كانت معه ضاعت في فوضى التنقل بين محطات المنافي واليوم يتمنى أن يحصل عليها من الأرشيف الاداري للمحطة وتمنى عليَّ أنْ أعرف أحداً يساعدنا في ذلك.
وانا اقرأ رسالة السلطاني تذكرت المكان وذكرياته ومراجعات امتحانات البكالوريا تحت ظلال بساتين منطقة ( شيرون ) و( العرجة ) القريبة من محطة الطاقة الواقعة على ضفاف الفرات، وتذكرت وجوه المئات من الخبراء والعمال الروس الذين كانوا يشيدونَ المحطة قبل تشغيلها، وكنا نقترب منهم دائما ونسألهم بحماسنا اليساري عن موسكو ورفات لينين والساحة الحمراء وروايات غوركي ولكنهم لم يردوا سوى بالابتسامة ويبدو انهم نصحوهم ان يبتسموا فقط.
لكني تعرفت عليهم أكثر حين كانوا يأتون الى سوق الصابئة ( الصياغ ) ليشتروا السلاسل وميداليات الذهب الايطالي، حيث يندر وجوده في الاتحاد السوفييتي، وكنت قد تعرفت أثناء ترددي على محل أحد الأصدقاء المندائيين على عائلة المهندس فكتور جوفيسكي وزوجته راقصة الباليه السابقة في فرقة البولشوي الروسية ( ناتالي جوفيسكي ) وقد رافقت زوجها الى هنا بعد أن توقفت عن العمل اثناء التواء كاحلها في التدريب .
تطورت علاقة التعارف وذات يوم اراد الرجل وزوجته ان نصحبه في نزهة الى الريف بمعرفتي فاخترت لهما اهوار الجبايش، وبعد ان حصل على الموافقة الامنية من دائرته في المحطة حددنا يوم السفر، وحين وصلنا هناك سحر جوفيسكي وزوجته بجمال المكان وقد تفاجأوا بقرى القصب وبيئة الماء واسراب الطيور وحين ركبوا الزوارق ضحكوا كثيرا وسعدوا انهم يركبون في زوارق كان قوم نوح يصنعون مثلها .
تمتعت ناتالي بهذه الطبيعة الفريدة وتمنت أن يجيء مدير فرقتها ليستوحي رقصات باليه الفرقة في موسمها الجديد من مشي نساء المعدان وهن يحملن عشرة أوانٍ على رؤوسهن دون أن تهوي على الارض، وقد كان الصوت عذبا في غناء الصيادين وهم يدفعون قواربهم مع ايقاع منتظم لحركة الموج وازدادت سعادتها حين مرت خمس بجعات فوق غابة القصب فصاحت: آه جايكوفسكي هنا في مدن الآلهة السومرية، سأجعل من ضفاف هذا الشاطئ مسرحا وسأؤدي لكم رقصة من رقصات باليه بحيرة البجع.
كان المنظر مذهلا عندما رفعت ( ناتالي ) تنورتها وراحت تؤدي رقصات جميلة اثناء طيران البجع فوق مياه الأهوار الخضراء فيما كان رعاة الجواميس من المعدان ينظرون اليها بدهشة وحب واعجاب....!
(2) ليونيد برجنيف والصيف
لأكثر من مرة وفي سبعينات القرن الماضي نظمت مديرية محطة طاقة الناصرية الحرارية الكهربائية والتي يقوم ببنائها خبراء ومهندسون سوفييت .
نظمت سفرات ترفيهية للخبراء في اهوار مدينة الجبايش، وكان ممنوعٌ على أي انسان الحديث معهم بالرغم من أن الكثير منهم يتقن اللغة العربية وباللهجة المصرية لأنهم اشتغلوا قبل المجيء الى العراق في انشاء مشروع السد العالي الذي اقيم على نهر النيل في مصر وتم افتتاحه من قبل الرئيسين المصري والروسي جمال عبد الناصر ونيكيتا خروتشوف.
وكان يرافق هذه المشاحيف مشحوف فيه مفرزة خليط من الشرطة والامن والمترجمين .
وكان البعض يصيد السمك، والمهندسون اصحاب المناصب الادارية في البعثة يمسكون بنادق صيد ويصيدون الطيور.
ذات يوم نزل مشحوف من هذه البعثة الى شواطئ قريتنا وقد تاه عن المشاحيف الأخرى، ففرحنا ونحن مسكونون بالفضول لنعرف الرجال السوفييت عن قرب بالرغم من أن نصف المعلمين لديهم انتماء او ميول شيوعية، ولكننا لانعرف شيئا عن تلك البلاد التي تسكننا بحلمها البروليتاري وثورتها البلشفية سوى ما تنقله لنا مجلة اسمها انباء موسكو وتلك الاخبار التي نقراها عن وقائع الحرب الباردة بين الروس والامريكان .
ويوم اتى لنا احد المعلمين البعثيين ليقول لنا :ان زعيمكم البروليتاري بريجينيف يملك احدث اطقم للسيارات الفارهة ومنها احدث موديلات الرينو الفرنسية التي يعشقها .
كتم المعلمون الشيوعيون الذين كادوا ينفجرون غضبا في وجه هذا المعلم وتكذيبه بالرغم من انني كنت اعلم أن الزعيم الروسي لديه هواية اقتناء السيارات من خلال تقرير مصور قرأته في مجلة الاسبوع العربي .
وقال احدهم : لولا ميثاق الجبهة الوطنية لرميت هذا الذي يتبلى على الرفيق بريجينيف بالهور حتى لو اقضي بقية عمري في سجن ابو غريب.
كان يوما صيفيا قائظا وكنا متواجدين لإنجاز امتحانات الدور الثاني عندما استقبلنا الخبراء الروس التائهين وقدمنا لهم اللبن والابتسامات وكان بينهم مهندس بدرجة خبير يدعى ( بريجينيف ) ويتكلم العربية .
قال له احد المعلمين : نحن سعداء بك سيد برجنيف .وسعداء اكثر لأنك تحمل اسم الزعيم ليونيد بريجينيف.
تغير لون وجه الرجل وابتسم بهدوء وقال انا : أسمي فاسيل بريجينيف وليس ليونيد بريجينيف اتمنى أن نبتعد عن التسميات ونشكركم على هذا اللبن وسننتظر رفاقنا.
همست الى المعلم : وقلت : ما الذي فعلته، بريجينيف يحب الصيف السيبيري ولا يحب صيف الاهوار لهذا لن يأتي . الذي جاء هو رجل مهندس علموه في موسكو أن يكون حذرا في كل كلمة يقولها، فكيف وأنه اسمه يحمل اسم الرفيق بريجينيف،ربما اوصوه ليكون اخرساً ولا يحرك فمه سوى مع درنفيس الفحص وزوجته في غرفة النوم . وقد اتى الخبراء مع زوجاتهم وسكنوا حيا بجوار المحطة اسمه (الحي الروسي).
وهكذا عشنا يوما صيفيا حذرا مع الرفيق بريجينيف. وكأننا جالسون في مجلس عزاء، حتى جزع احدهم من هذا الصمت وسأل المهندس بريجينيف : إن كان صيف الاهوار يشبه صيف موسكو.؟
ولأنه سؤال جغرافي اجاب المهندس :كلا هنا صيفكم جحيم، وموسكو جوها لطيف في الصيف.
قال المعلم مازحا : لهذا ارسلَ الرفاق في موسكو الى صيفنا بريجينيف التقليد ولم يرسلوا برجنيف الاصلي....!
( 3 ) ماو بدون وجههُ الصيني
ملأ وجه ماو وجوهنا حتى مع انتفاخ خديه ونحافة بعض خدود المعلمين ونحن نبادل بالدور قراءة مجلة الصين اليوم التي تطبع باللغة العربية، وتوزع كثيرا في العراق وهي تنقل تجربة الصين الزراعية والصناعية في ظل حكم ماوتسي تونغ .
لقد كان أغلب الذين ينتمون الى اليسار الماركسي من المعلمين أولئك الذين لديهم الانتماء الى الشيوعية التي تنتمي اليها تجربة الاتحاد السوفيتي، وقليل منهم من يتحدث بحماس ماوي ربما غيضا من البلطة التي نزلت على رأس ليون تروتيسكي في المكسيك .
وبالرغم من هذا فأن الأمر لن يتعدى اثناء النقاش في فرص الاستراحة حين نقلب المجلة، لن يتعدى وجهات النظر، وربما الكثير قلوبهم في موسكو والقلة قلوبهم في بكين . وعندما سألنا ريكان : وأنت وين قلبك .؟
أجاب : قلبي جنب ابو الحسنين علي ( ع ) في النجف ومرات يطفر حنينا الى كربلاء ..
قلت :تحب أن تزور موسكو، بكين ؟
قال : اذا هما ابعد من النجف وكربلاء والكاظم ومعصومة فالأمر مستحيل ويحتاج الى طيارة، وانا لم اشاهد بحياتي طيارة، فكيف يتسنى لي أن اركبها . ويقولون انها تحتاج لدفتر مثل هذا الذي يسافر فيه معلم الحياتية كل عام الى بلاد ( النسوان العريانة ) وأنا جنسية اخرجتها ( بطلعان ) الروح ولولا الوظيفة لم اخرجها، فيا استاذ : نحن نمد اقدامنا بمقدار ما نشتاق اليه. القباب والنوم بهدوء قرب ضريح الامام.
قلت :إلا تريد ان تتعرف على ماو، وتتعلم من تجربته حتى في مداواة الجواميس وبناء حضائرها.
قال : الكي بالنار يداوي كل علل الجاموس، وزرائبها نعتني بها، وتأكل جيدا،حتى تعطي جيدا.
قال آخر: في روسيا ليست هناك جواميس لكنهم يعلموك زراعة البطاطا واللهانة والخس .
قال: هذه متوفرة في سوق الجبايش نشتريها متى نشاء ولكن اسأل الروس هل لديهم خبز الطابك والشبوط .
قال المعلم :لديهم، فعندهم نهر عظيم اسمه الفولكا، اما الرز فالشعوب الباردة لا تحبه كثيرا لأنه غذاء المناطق الحارة.
قال: وهو ماء نهرهم مالح.؟
قال المعلم: شربت منه، كان حلوا .
قال: لن يكون سمكهم لذيذا، فسمك المياه الحلوة ( باهت ).
ذات يوم اتى الينا شغاتي بخبر اقلق القرية، عندما اخبرنا أن زورق من رجال الشرطة والأمن جاء يبحث عن أربعة رجال مسلحين، وهل مرورا بالقرية ..
اخفى ريكان رأسه، ولمحت في وجهه تعابير أن يعرف من الامر شيئا.
في الليل زرته بمضيفه وتمنيت أن يكون معي صريحا ؟.
قال : نعم يا أستاذ هؤلاء أربع رجال مسلحين،اقتربوا بزورقهم من القرية ذات ظهيرة وطلبوا منا خبزا، وسكرا وقد اعطيتهم دون اسألهم وتكرر الامر لثلاث مرات،كنت اظن انهم مستطرقين، وعندما تكرر الامر سألتهم :انتم اولادي من اين.؟
قالوا :ياعم وثقنا بك وبطيبتك، نحن ثوار ماويون، ملننا الحكم في بلدنا،وشعرنا انها اشتراكية زائفة ونؤسس هنا ثورتنا الماوية .
سألتهم : ماوية لأن جميع بنادقكم كلاشنكوف صيني .؟ ضحك احدهم وقال :لا ياعم نحن نؤمن بالتجربة الصينية، البندقية والمنجل ..
تركتهم، ومنذ حوالي اسبوع لم يقتربوا من قريتنا ...
قلت :لن يقتربوا، مادام قد اتى رجال الأمن يسألون عنهم هنا فلم يقتربوا حتى القرية .
الآن لدينا ماو ولكن بدون وجهه الصيني.!