في ظل سيطرة انموذج جيل الخمسينيات القصصي – وهو انموذج استقطب جوهر سرديات عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان ومهدي عيسى الصقر، وغيرهم – لم يتح للذاكرة السردية عند الجمهور الادبي ان تتسع لجيل الريادة والتأسيس في العراق المتمثل بكتابات محمد احمد السيد وعطاء امين وسليمان فيضي وذنون ايوب وعبد المجيد لطفي وانور شاؤل ويوسف متي وعبد الحق فاضل وجعفر الخليلي وآخرين، او ان تضعه في سياقه الطبيعي من حركة التحديث القصصي.
لم يكتف القصاصون الخمسينيون في رؤيتهم الابداعية المبكرة بعرض الواقع عرضا متقنا على المستوى الفني، بل كان يؤرقهم على الدوام المضمون الذي يمكن ان يغلف القصة، او الاثر الفكري الذي تخلقه الدلالات في سياق تركيب الاحداث، وكانت لهم فضيلة التخطيط المسبق للقصة في ادق تفاصيلها قبل الشروع بكتابتها. ولهذا اتهم عبد الملك نوري جيل الريادة بأنهم كتاب مقاصات (مقالات قصصية) وليسوا بكتاب قصص فعليين، في الوقت الذي رآي فؤاد التكرلي فيهم "اناساً مبتدئين يجب ان لا يفكروا بنشر مثل هذا الادب. وكان عليهم ان ينتظروا، ان يقرأوا ويطلعوا، ثم يقرروا بعد ذلك مصير هذا الادب القصصي الذي صاروا رواداً له! أينشرونه او لا؟". (من حوار مع التكرلي اجراه ماجد السامرائي في مجلة "العربي" الكويتية – العدد 373 كانون اول 1989).
وسواء اتفقنا مع هذين الرأيين لنوري والتكرلي ام لم نتفق، فان كتاب جيل الريادة الذين ابتدأت كتاباتهم القصصية في العقدين الثلاثيني والاربعيني من القرن العشرين، مهما كانت مواهبهم او نواياهم، فانهم انطلقوا من فراغ، من عدم وجود ارث قصصي سابق، من عدم اطلاعهم الكامل على التراث القصصي العالمي، من عدم معايشتهم للتجريب القصصي، فضلا عن ذلك فان عجلة الحداثة والتجديد لم تسر على ارض ممهدة في زمانهم، اذ كانت هناك قوى معيقة ترى في الحداثة خطراً على هوية المجتمع وقيمه وثقافته الموروثة.
وأرى شخصياً، ان "الرؤية الخمسينية" قد فرضت حضورها القصصي الصاعد في الاسماء التي ذكرناها مقدماً، بالاضافة الى اسماء مهمة ابتدأت رحلتها القصصية في الخمسينيات امثال: نزار عباس، وجيان، ونزار سليم، وغانم الدباغ، محمد روزمانجي، محمود الظاهر، ادمون صبري، موفق خضر، غازي العبادي، خضير عبد الامير وغيرهم، وهم جميعاً من (الجيل الضائع) في حقب التجييل القصصي وفقاً لما اصطلح عليهم الباحث الدكتور عبد الإله احمد في تاريخ القصة العراقية.
وأظن ان دراسة مسار التجارب القصصية في العراق يؤكد لنا ان تطور الرؤية القصصية للقاص وتبلور البنية الفنية للعمل القصصي، انما هي ثمرة غير مباشرة للتغيرات الاجتماعية ولتطور العلاقات الاجتماعية والانتاجية في المجتمع، اذ لم يكن بالامكان تحقيق أي نضج فني او فكري في التجارب القصصية دون نضج القاعدة المادية والبنية الاجتماعية والثقافية.

في الرؤية الستينية

المفارقة ان يصمت الجيل الخمسيني لسنوات طويلة حال اندلاع ثورة 14 تموز في العام 1958 التي مثلت تغيرا اجتماعيا واقتصاديا عميقا في بنية المجتمع العراقي ونقلته من مرحلة تاريخية متخلفة ومعيقة لتطور القوى الانتاجية والاجتماعية الى مرحلة تاريخية جديدة اتاحت الفرصة لنمو قوى الانتاج الجديدة، فوقف هذا الجيل حائراً مبهوتاً امام صعود طبقات اجتماعية جديدة لا يمكن التعبير عنها بشكل آني وسريع في الكتابة القصصية.
وفي الوقت الذي كان فيه هذا التوقف موضوعياً ومسوغاً للقاص الخمسيني الذي وجد نفسه عاجزاً عن التعبير عن الوضع الثوري الجديد بما حمله من احداث صادمة ومتلاحقة كتصفية رموز النظام الملكي وصدور قانون الاصلاح الزراعي وقانون رقم (80) الخاص بتأميم الشركات الاجنبية في العراق والخروج من ربقة الجنيه الاسترليني وحلف بغداد وغيرها الكثير، كان ثمة جيل جديد بدأ يظهر باحثاً عن انماط قصصية جديدة تلائم المسار المعقد الذي سلكته الاحداث في السنوات التي اعقبت الثورة في الستينيات.
لقد كانت السنوات الممتدة بين 14 تموز 1958 و8 شباط 1963 سنوات معقدة لجيل قصصي جديد بدأ بالارهاص، جيل ابصر بعينيه انتصار الثورة وانكماشها ثم انكسارها الدموي في جمعة رمضانية سوداء بسبب دسائس البعض من الضباط القوميين الاحرار وتآمر حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق على الحكومة والحركة الوطنية معاً، من خلال مساعدة ودعم بلدان الجوار الاقليمي وعبر النجدة المعلنة للقطار الامريكي الشهير المعبأ بالمال والسلاح والجواسيس. وهذا القطار هو احد رموز الاسطول السادس المتربص على سواحل بيروت منذ ايام الثورة الاولى ان لم يكن ايقونة صارخة له.
لقد ترعرع جيل الستينيات القصصي – كما يقول الاستاذ الناقد فاضل ثامر في كتابه المثير "مدارات نقدية" – في ظروف سياسية غاية في التعقيد اسهمت في تعميق احساسه بالاحباط والهزيمة والخيبة، دفعه الى مراجعة الكثير من القيم والمسلمات والبحث عن قيم وآفاق وتجارب جديدة. ورغم ان تجربة قصاصي الستينيات لا يمكن ان تحصر ضمن سمة واحدة، فان المسار الرئيس لهذه التجربة اتسم بهيمنة الهم الفردي خلافاً للجيل الخمسيني السابق الذي كان يهيمن عليه الهم الجماعي.
ومع ذلك، فقد شكلت مواكبة جيل الستينيات للجيل الخمسيني السابق عليهم حافزاً مزدوجاً لتعميق وتوسيع افق الابداع عند الطرفين، خصوصاً في متصلات السرد (رواية، قصة قصيرة) فقد تأثر كلا الطرفين بالآخر، وبقدر ما كان الجيل الاحدث حريصاً على اثبات حضوره الابداعي في مواجهة الكبار، كان هؤلاء الخمسينيون يحرصون بدورهم على التجدد الابداعي الذي اصبح سمة للستينيات وتوابع زلازلها، وهو الامر الذي اشعل حماسة الاجيال الشابة في حومة المنافسة الستينية، وذلك بهدف تقديم كتابة مختلفة لا أثر فيها للتقليد، بل الابتكار والابداع الذي ما يزال مستمراً، عابراً بالدوافع الابداعية نفسها الى السبعينيات والاجيال اللاحقة التي اضافت الى البداية الستينية، ولا تزال حيوية مع التولد الدائم للمخالفة الخلاقة في الافق الذي لم ينغلق، بل اكتسب مرونة مضافة من العقود اللاحقة.

معالم السرد العراقي

ما يلفت الانتباه حقا في صنّاع الرؤية الستينية التي انبنت على رؤية متمردة على البطريركية العسكرية التي جسدها النظام العارفي للشقيقين (عبد السلام وعبد الرحمن) ثم نظام البعث الثاني الذي تعرى وانكسر، لكن دون ان يموت او ينتهي الا في ربيع نيسان عام 2003، هو انهم كتاب قصة في الاغلب الاعم وفق التمثيل الذي تحتمله خبرة الممارسة وذاكرة المجايلة في آن بالطبع، ولكن يظل المؤشر الكمي واضحاً ودالاً على ان التجمع الغاضب والرافض لجيل الستينيات، وهي سنوات الجمر والرماد، اذا شئت هذا التشبيه الذي يصل الغضب بوعي نهاية مرحلة واحتراقها الذي أحالها الى رماد، لم يعد بميلاد عنقاء فتية بعد.
ويمكن تحديد معالم السرد العراقي للرؤيتين المذكورتين (الخمسينية والستينية) في اطار وحدة التنوع والتعدد التي تقوم على عناصر مشتركة يمكن حصر اهم ملامحها في ما يلي:
اولاً: يمكن وصف هذين الرؤيتين بأنهما جذرياً رؤية التحليق مع الحلم الوطني المدوي الذي انقلب الى كابوس اعوام انقلاب 1963 ونكسة حزيران العربية 1967 وانقلاب البعث الثاني 1968.
ثانياً: تعرض اصحاب الرؤيتين معاً الى القمع والاضطهاد والتنكيل كما حدث للقاص الخمسيني عبد الرزاق الشيخ علي في غيابه الغامض من قبل السلطة الملكية، واعتقال وتعذيب عبد الستار ناصر ومحمود جنداري وجهاد مجيد واعدام حاكم محمد حسين خلال السبعينيات والثمانينيات من قبل سلطة البعث. الامر الذي يعكس اعتصام القصاصين بغضبهم في مواجهة الاستبداد والدكتاتوريات الشمولية.
ثالثاً: شاء بعض النقاد ومنهم الاستاذ فاضل ثامر بعدم تجييل القصاصين الشباب بعد اصحاب الرؤيتين السابقتين حتى وان حملت القصة في السبعينيات صفة الواقعية الجديدة وابتعدت عن الحدود الضيقة للواقعية الانتقادية التي هي سمة القصة العراقية الخمسينية. وكان مبرر هؤلاء النقاد أن القصاصين الشباب لم يستطيعوا طرح رؤية متميزة فنيا وفكريا تجعل منهم جيلاً ادبياً له خصوصيته وتميزه وليس مجرد امتداد طبيعي متطور لتجربة الجيلين السابقين.
رابعاً: الصمت النقدي المتعمد او المجبر ازاء انحطاط الادب السردي في العراق خلال الثمانينيات، حينما تحول هذا الادب الى بوق تعبوي خلال حرب الخليج الاولى بتمجيد الديكتاتور وتكريس العروبة المزعومة لجيشه العرمرم المنتسب الى (اولاد عدنان.. اولاد قحطان) واستمر هذا الصمت حتى يومنا الراهن من دون مراجعة ملزمة للقطيعة المعرفية والفنية في مسار السرد العراقي، قصة ورواية.
خامساً: كانت الرؤية الستينية والخمسينية على نوعين، الاولى تجريبية محضة تقطع جذورها بالعالم الخارجي وتسقط اسيرة التجريد والانغلاق على الذات، كما وردت في بعض محاولات جليل القيسي، عبد الرحمن مجيد الربيعي، سركون بولص، جمعة اللامي، احمد خلف، موسى كريدي، محسن الخفاجي، محمد عبد المجيد، عبد الستار ناصر، عائد خصباك، وعبد الإله عبد الرزاق. اما الثانية فظلت لصيقة بالواقع والتغيرات الاجتماعية، كما في تجارب محمد خضير وفهد الاسدي وغازي العبادي وموفق خضر وعبد الرزاق المطلبي وغانم الدباغ وعبد الله صخي وكاظم الاحمدي وعبد عون الروضان.
سادساً: المزج بين الواقعي والفنتازي والخرافي في رواية "مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة" وكذلك استخدام اقنعة التصوف واللغة العرفانية، ويمكن الاستشهاد هنا بقصص جمعة اللامي والبعض من قصص شوقي كريم حسن وحميد المختار.
سابعاً: استخدام التاريخ اقنعة ومرايا لفهم الحاضر والماضي الذي ادى اليه على السواء، كما في مجموعة "عصر المدن" لمحمود جنداري ومجموعة "دومة الجندل" لجهاد مجيد.
ثامناً: تكريس الجنس بشكل عصابي مرير، خصوصا في الاعمال الروائية والقصصية لفؤاد التكرلي وعبد الستار ناصر وحميد الربيعي وبعض قصص نزار عباس. وتتسامى قصة محمود جنداري الاثيرة "الدغل" عن هذا العصاب القهري كأفضل قصة عراقية تتناول هذه الموضوعة في تدفق لغوي صاف كالنبع بلا حواجز، كاشفاً عن عمق ثقافته اللغوية.
تاسعاً: توظيف الطقسية الدينية وتجلياتها خصوصا في شعائر عاشوراء والمتمثلة في مجموعة موسى كريدي "خطوات المسافر نحو الموت" وكذلك في قصة "الشفيع" لمحمد خضير التي قد تحتمل اكثر من تأويل.
عاشراً: توظيف (السجن) كأداة للقمع السياسي، كما في رواية "المبعدون" لهشام الركابي ثم رواية "المركب" لغائب طعمة فرمان، وقبل هاتين الروايتين ثمة قصة مبهرة لجليل القيسي حملت عنوان "معسكر الاعتقال الصحراوي" التي تضمنتها مجموعته الشهيرة "زليخا.. البعد يقترب".
ولكن، هل يمكن ان نجعل المعالم السابقة دالة على المستقبل؟ ربما ستكون الاجابة بالايجاب، فقد اصبح شباب القصاصين والروائيين العراقيين غير قادرين على كتابة السرد بأساليب الخمسينيات والستينيات او حتى السبعينيات، ولعل التجارب الحديثة المتمثلة بكتابات سعد محمد رحيم، وعبد الكريم العبيدي، واحمد السعداوي واسعد اللامي وعبد الزهرة علي واسعد الهلالي وزهير كريم ومحمد الكاظم وحيدر عبد المحسن وسلمان كيوش وغيرهم، مصداقاً لما نقرأ.