في (مصلحة المبايعات الحكومية) لم يتسن لي حينما كنت موظفا فيها البقاء في أي قسم من اقسامها أكثر من شهرين، عقوبة النقل بين اقسامها لم تفاجئني، لأن حمى اوامر التنقلات الشهرية تتصاعد في اجواء مخازن ومكاتب الدائرة كلما تتصاعد في الاجواء رائحة اليسار، في أحد الايام صدر أمر نقلي الى (دائرة المعلبات) هكذا كان اسمها وتشغل بناية صغيرة في شارع الجمهورية. قدمت اوراقي الى المدير الذي اشار الى غرفة صغيرة مليئة بالاضابير وتحتوي على ثلاث مناضد معدنية شغل اثنان منها.. شاب وشابة اشارا الى المكتب الفارغ وجلست.. بعد الترحيب والمجاملات ادركت من أول لحظة أنهما متصالحان جدا مع نفسيهما ومن المؤكد أنهما عاشقان، الشابة سمراء بقامة فارعة وعينين واسعتين بكحل خفيف ومكياج بسيط، بقصة شَعْر ولادية، مرحة سريعة النكتة، رشاقتها مذهلة تنسجم مع اناقتها السبعينية.. بلوزة بيج ضيقة تظهر جمالها الانثوي وبنطلون بلون القهوة التي كانت تتفنن في اعدادها، الشاب كان لايقل عنها أناقة، يطيل سالفيه وبشعر مفروق من الوسط وبطول يصل الى طولها، كان انيقا وتفوح منه رائحة عطر زكي. كنا ندخن نحن الثلاثة ونتبادل السكائر بيننا وتوليعها لبعضنا البعض. ربما كانا حذرين مني في أول الامر لكن احاديث بسيطة عن الروايات والافلام والمسرحيات.. فضلا عن جريدة طريق الشعب التي كانا يحرصان على شرائها كل يوم كذلك بعض النقاشات التي كنت اشاركهما فيها كانت كفيلة بازالة حذرهما، كان واضحا ذكاء الشابين وسعة اطلاعهما، والغريب انهما كانا يمتلكان الموهبة والقدرة على الغناء، فكانا يغنيان وبالتناوب باصوات خافتة اغلب اغاني عبد الوهاب وكنت اسمع تلك الاغاني بانبهاروشجن ينسيني كل همومي. كنت كلما اصاب بالكآبة، أجد نفسي منبهرا بموسيقى انسانية هائلة بطلتها تلك الشابة الانيقة وحبيبها، ندخن ونحتسي القهوة والشاي ونسمع فيروز ونغني للوطن والناس، رغم مايصلنا من أخبار عن الجبهة التي بدأت تتضح معالم تهالكها وضعفها عبر التضييق علينا نحن من كنا نحسب على اليسارعبر لعبة التنقلات والتجميد عن العمل، حتى الصباح الذي وصلت فيه الى مكان عملي، وجدت الشاب وحيدا يدخن وهو صامت.. لم يرد على تحيتي وحينما سألته ما به.. اجابني وهو ساهم: لقد اعتقلت اليوم صباحا.. قلت: لماذا؟ لم يجبني لكنه واصل فيما بعد دون أن يتوقف عن التدخين: هذه المرة الوحيدة التي اخاف عليها منهم، فالقوة التي وصلت صباح هذا اليوم وهي تطوق المبنى والطريقة التي اقتادوها تجعلني افكر بأن دوري او ربما دورك سيأتي قريبا.. حاولت أن اطمئنه.. لكني فهمت منه انها تقود تنظيما نسويا كبيرا وانها تعرضت لعدة اعتقالات وقدمت الكثير من التعهدات.. وفهمت منه انها واصلت عملها الحزبي في ذات المنظمات وهي مكشوفة للبعثيين وعيونهم.. قلت له لاتخف.. انهم سيكتفون بالتعهد ايضا.. غادرنا الدائرة وبدأنا التسكع في شارع الرشيد.. وكنا نجلس حينا في احد المقاهي ونسير في اغلب الاحيان باتجاه الباب الشرقي، كانت وجهتنا شارع ابي نواس.. وهناك اخترنا مكانا استرحنا فيه.. وفي تلك الجلسة اسرني انه ربما سيتعرض الى الاعتقال قريبا، كان موقنا بانهم سيعتقلونه، رغم صراخي به.. "والجبهة" لدينا جبهة معهم، ربما اعتقالها جاء لايصال رسالة لا أكثر ولا أقل.. لكنه كان يدرك ما يقول.. لم يقل لي إنه سيهرب.. لكني عرفت فيما بعد انه غادر بغداد في تلك الليلة الى البصرة وبقي متخفيا هناك.. وتذكرت خوفه، حينما وصلت في اليوم التالي الى الدائرة وأنا أرى حركة غير طبيعية فيها وحولها، سألوا عنه مديره وباقي الموظفين.. ولكنهم لم يسألوني وانما اكتفوا بالنظر الي نظرات متفحصة.. بعد سنوات التقيته في شارع الرشيد وقد اطال لحيته وقص شعره الطويل.. ضمني اليه ولم اترك له فسحة للكلام، سألته عنها.. حينها انهمرت دموعه بحرارة وهو يخبرني انها أعدمت بعد شهور من ذلك الاعتقال وكما اخبره أحد الجلادين من معارفه انها: "ماتت وهي تضحك".

عرض مقالات: