إحدى الشخصيات الثقافية العراقية التي أثرت في المشهد الثقافي برمته منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى رحيله قبل سنوات قليلة  وهو شخصية هادئة طيبة ذات كاريزما تشعر الجالس معه بأي جلسة وكأنه يجلس مع احد الملائكة الذين هبطوا من السماء الى الأرض ، انه الكاتب والناقد والإعلامي الراحل محمد الجزائري الذي غادر الحياة صيف عام 2015  بمدينة (خنت ) في منفاه البلجيكي بعد ان توقف قلبه عن النبض اثناء اجراء عملية طويلة لشرايين القلب لم تتكلل بالنجاح للأسف الشديد لذلك القلب الحنين والطيب ، لقد كان رحيله المفاجئ صدمة كبيرة لكل من عرفه وعمل معه . ولد الكاتب محمد الجزائري في مدينة البصرة بمنطقة تدعى الخندق عام 1939 وقد لقب بالجزائري نسبة للمنطقة التي سكنها في البصرة وهي منطقة الجزائر التي سكنها جدهم الأعلى السيد محمد  الحسين وهو من اسرة مشهورة في جنوب العراق .في بداياته الأولى عرف الراحل الجزائري كشاعر ثم كناقد ادبي وفني وجاء الى العاصمة بغداد بداية الستينيات وعمل في الكثير من الصحف والمجلات كان آخرها مجلة فنون التي ترأس تحريرها لسنوات ثم تم غلقها وتجميده عن العمل فعقب على ذلك بقوله (بعد ان تم غلق مجلة فنون عام 1987 وتجميدي كرئيس لتحريرها بدعوى إنها مجلة معارضة ، اعتكفت على مدى ستة عشر عاما من دون عمل وظيفي حتى هاجرت الى بلد عربي). محمد الجزائري من مؤسسي اتحاد الادباء في العراق ونقابة الصحفيين ونشر عشرات المؤلفات في النقد الأدبي والفني وكتب فكرية وانجز العديد من النصوص والسيناريوهات الى السينما والتلفزيون. غادر محمد الجزائري العراق في النصف الثاني من فترة التسعينيات وكان من أقرب أصدقاء البياتي والسياب والكثيرين من جيل الرواد، وحين انتقل الجزائري من عمّان الى بلجيكا ظل متواصلا مع النقد الروائي والفني ويعتبر من كتاب العراق الكبار. وفي أكاديمية سانت لوكاس دخل قسم الرسم المسائي ورسم العديد من اللوحات ثم درس في واحدة من جامعات هولندا العربية الأهلية لينال شهادة الدكتوراه من أجل أمنية كان يحاول تحقيقها منذ زمن طويل وهو في سنواته الأخيرة. لقد جمعتني بالجزائري العديد من الجلسات وعرفته عن قرب وكان يحمل كل الصفات الجميلة التي تجتمع في شخصه وروحه النبيلة. قبل سفري بأيام من عمّان الى النرويج أهداني محمد الجزائري كتابه الذي صدر للتو في لندن عام 1998 عن "دار الوراق للنشر" ، كان الكتاب بعنوان (احتلال العقل ) والذي صمم غلافه الفنان الراحل ( أرداش كاكافيان ) وكان أرداش كثير الجلوس معنا على مائدة البياتي الفينيقية والياسمينية وهو من الفنانين الكبار . يقول ناشر الكتاب في مقدمته عن كتاب الجزائري (يريدوننا أن نتطبع ، على ما لا نريده ! لقد سلبوا الأرض والثروات والثقافة والحرية. يريدوننا أن نقدم (تفوق) الآخر، طرفا في معادلة الوجود وألا نتوانى عن ملء صحوننا بالضجيج الإعلامي والشعارات والأكاذيب، كي نغادر مائدة عصرنا وأرضنا، ونحن جياع وتابعون. نحن نعرف بوعي ما في دواخلنا ونقدم إجابتنا الساحرة، أن نكون كما ينبغي ونحلم ونريد).  هذا ما جاء في كلمة الناشر لكتاب الجزائري. ولعل الهدوء وطيبة البصرة والأفكار اليسارية، والتي هي صفات مجتمعه في محمد الجزائري دفعته الى أن يكتب كتابه هذا والذي نرى شواهده شامخة هذه الأيام كأي مفكر يرى المستقبل أمامه وكيف تسير الامور من سيئ الى أسوأ! لقد طرح المبدع الجزائري في كتابه العديد من الأسئلة منها: هل نحن بدون هوية؟ هل تم تقويض هويتنا الثقافية؟ واسئلة أخرى كثيرة في واقع الحياة الثقافية والإنسانية والتاريخية، كذلك استفسر عن دخول العولمة وأشياء كثيرة احتواها كتابه الشيق.

لقد احتل المنفى عقولنا وأحاسيسنا وأيامنا وكل ما هو جميل داخل الروح، رغم جمال المنفى إلا أن اجسادنا ها هنا من دون روح! في احتلال العقل يأخذنا الراحل الكبير محمد الجزائري بمهارته العالية برحلة من بدايات الهدنة الأولى ومأساة فلسطين الى نهايات كوبنهاغن التحالف وأوسلو السلام! وحتى سقوط بعض المثقفين وسقوط الخيارات. كما يأخذنا من حصار الخبز في العراق البلد الأغنى – الأفقر، الى رحلة الطحين تحت درجة الصفر.

ان كتاب (احتلال العقل) لمحمد الجزائري كان وسيبقى علامة فارقة في تساؤلات مشروعة داخل الثقافة العربية والعراقية بشكل خاص.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر الاستاذ هادي الحسيني عموده هذا أمس الأول على صفحته في الفيسبوك وقدم له بالكلمات التالية: "عمودي الأخير في جريدة طريق الشعب الذي لم ينشر عن استاذنا الكبير الراحل محمد الجزائري". وللتوضيح نقول ان "طريق الشعب" لم تنشر العمود فعلا لسبب وحيد، هو أنه لم يصل اليها ولم تتسلمه. وهي تنشره اليوم منقولا عن صفحة الاستاذ الحسيني.

عرض مقالات: