لمنتدى المسرح في العراق مبنيان تاريخيان يكادان ان يتشابها معاً في الموقع والتفاصيل المعمارية. الاول تأسس في العام 1984 في شارع الرشيد – منطقة الاورفلي وهو ما سبق منتدى المسرح الراهن الذي نهض بعد احداث التغيير في 2003 في شارع الرشيد ايضاً – منطقة السنك.
كانت عائدية الاول تتبع وزارة المالية – دائرة عقارات الدولة، بينما الثاني خاص بوزارة الثقافة منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي حينما اتخذ متحفاً للفنانين التشكيليين الرواد لسنوات معدودات قبل ان يحط رحاله في وزارة الثقافة كمركز للفنون في العراق.
الطريف ان كلا المبنيين يعدان من البيوتات البغدادية التراثية التي بنيت بعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921، وأصول الاول تنسب الى تاجر يهودي مرموق ارتحل الى دولة اسرائيل مرغماً بعد قانون اسقاط الجنسية عن الطائفة الموسوية في العراق خلال حكومة توفيق السويدي عام 1952. وكان هذا المبنى ينسب خطأً الى ساسون حسقيل وزير مالية الحكومة العراقية بعد التأسيس المذكور، في حين تعرف عائدية الثاني بالسيد عبد الرحمن الكيلاني مفتي بغداد وأول رئيس حكومة عراقية بعد التأسيس المذكور ايضاً.

المسرح واشكالية المكان

ربما لم نقدم في هذه اللمحة التاريخية اغلب جوانب الصورة لمشتملات كلا المبنيين المذكورين للتأكيد على ان الاصالة والمعاصرة في الانتاج المسرحي لا يتصالحان فقط في هندسة المباني، بل في فلسفة الانتاج واسلوب تقديمه.
إذ ما عاد الانتاج المسرحي في تقديري يقدم في المسارح الاولمبية المفتوحة ذات الهواء الطلق كما تفعل اثينا في زمن الاغريق، وما عاد هذا الانتاج يقدم في المسارح ذات الاقواس المتدرجة كما فعلت روما في زمن الرومان. وليس في الامكان استعادة المسارح الاليزابيثية المعروفة التي رافقت شكسبير واقرانه، وهي مسارح شبه مغلقة – شبه مفتوحة، معززة بالأعمدة والستائر المختلفة. بل ليس بالمستطاع الركون الى مسارح العلب المغلقة التي ابتدعها الايطاليون في عصر النهضة، وهي ما استراح اليها ستانسلافسكي في اعداد الممثل ثم تمرد عليها تلامذته المعروفون ومنهم مايرهولد وتايروف وبيسكاتور ومن جاء بعدهم امثال غروتفسكي في (المسرح الفقير) وبيتربروك في (المكان الخالي) ويوجين باربا في (المسرح الانثروبولوجي) وايرين مينوشكين في (مسرح الشمس) وبيترفومان في (مسرح الخبز والدمى).
وبالطبع هناك الكثير من الآراء والمقولات والمنطوقات التي يتواشج فيها التطبيق المكاني لعروض المسرح مع الانتاج، ولكن الفاعلية المسرحية او الانجاز بشكله العام يخضع للتراكم الذي يخلق النوع. هذا المفهوم الفلسفي التاريخي الجدلي، ينحو بنفسه في اتجاه فلسفة الانتاج الفني، إذا ما اخذ الانتاج كعطاء مستديم.
وبشكل عام، كان منتدى المسرح في مبناه الاول ينحو الى حيوية المكان ومرونته من خلال توظيفات مختلفة، لعل الصالة ومشتملات المبنى الاساس فيها لأنها من المكونات المركزية كمفردات لآلية الانتاج الفني. ومن هذا النمط من التداخل ينشأ نوع من الحراك الفكري الذي تشير اليه العلاقات الداخلية من جهة واشتقاقات وتداخل مفرداتها الجزئية من جهة اخرى، فالمكان لا يبوح بأفكاره مباشرة كما هي علاقات اللغة، وانما تجتمع المفردات وتتعانق نحو تشكيل معمار بصري – ذهني يؤشر عبر حالة (الركح التمثيلي) والتقنيات المسرحية المصاحبة (السينوغرافيا) واحالتهما الى ممارسة طقسية فنية التي هي الملاذ الروحي للمثل والمتفرج معاً اثناء العرض المسرحي الذي يبعد الذات عن عوامل التشوه المادي باتجاه النقاء الذاتي وصولا الى فعل (التطهير) الارسطي.

عروض حافلة بالانهماكات

تفاوتت عروض المنتدى في اهميتها ركحياً وإخراجياً، فأغلبها تجريبي وبعضها تعليمي وبعضها مدرسي محظ. وأكيد ان كل عرض من هذه العروض يكتسب اهميته من مكانة مخرجه المسرحي ورفعة ذوقه ورهافة احساسه وعلمه ومعاييره الفنية، وهذه شروط لا تجتمع الا لندرة من المخرجين، ومن هذه الندرة: ناجي عبد الامير، عباس الحربي، كاظم النصار، احمد حسن موسى، حيدر منعثر، غانم حميد، حنين مانع، حميد صابر، ياسر البراك، قاسم زيدان، وآخرين.
ومن الملاحظ ان بعض المخرجين سعو الى خلخلة المكان داخل مبنى المنتدى بطرق متعددة، ومنها تغيير امكنة العرض المسرحي الواحد ومواضع وقوف الجمهور او جلوسه بطرق مبتكرة كما حدث في أحد عروض د. عوني كرومي بدءاً من شاطئ دجلة مروراً بحديقة المنتدى الخلفية وصولا الى الصالة الداخلية. وقد تصل الغرابة حد الدهشة في استثمار المكان حينما سعى المخرج باسم الحجار الى ادخال هيكل سيارة كامل نوع (فولكس واكن) داخل ساحة التمثيل المحدودة، او سعي المخرج جبار المشهداني الى الغاء الممثلين تماماً والاعتماد على رائحة الشواء وفقاعات بعض المساحيق مع تغيير الاضاءة والموسيقى على مدى زمن العرض. وهناك من اعتمد على حركة المروحة السقفية كـ (موتف) فاصل بين مشهد وآخر في صولات الممثلين الركحية كما فعلها المخرج سنان العزاوي.
ومع ذلك لا يمكن ان تكون عروض منتدى المسرح ذات منحى تجريبي معلن، فهذه تهمة وجهت اليه من قبل كثيرين في مناسبات مختلفة. ولكن لا بد من القول: ان المسرح في العراق ارث اممي مشترك يحق لجميع المجربين ان يغترفوا منه ويضعوا تجاربهم فيه، خاصة حين يمر الزمان وتتعاقب الاجيال وتتغير الاذواق وتتبدل المعايير. لقد صدق المخرج الانكليزي جيمز روز افنر حينما قال: "ان نجرب يعني ان نرحل في المجهول، انه ذلك الشيء الذي لا يمكن توضيحه الا بعد الحدث، ان تكون طليعياً يعني ان تخرج خروجاً فعلياً وحقيقياً على المألوف لتكون في الطليعة".
لقد قدم منتدى المسرح ايضاً الكثير من المؤلفين المسرحيين الجدد، واحتضنهم لدورات عديدة ومنهم من أصبح له شأن في عروض المسارح الكبرى في بغداد كمنصات (الوطني) و (الرشيد) امثال فلاح شاكر وعلي عبد النبي الزيدي وعباس الحربي وقاسم مطرود وعلي حسين وحنين مانع وعبد الخالق كريم وزيدان محمود، ومنهم من ظل امينا لقواعد فضاء المنتدى الذي لا يحتمل الشخصيات المتعددة في صياغة النص فحصل على جوائز دولية واقليمية امثال: علي عبد النبي الزيدي وعمار نعمة وقاسم مطرود ومثال غازي واسماء الراوي.
ومع ان المنتدى قد قدم المئات من الممثلين الهواة والكثير من خريجي المعاهد وكليات الفنون الجميلة في عموم العراق، ومنهم من أصبح نجماً مطلوباً في الدراما المتلفزة والتمثيليات الاذاعية، الا ان الملفت في هذا المنتدى انه كان منطلقاً رحباً للبعض من فناني التمثيل الصامت (المايم) وأبرزهم الراحل محسن الشيخ وانس عبد الصمد وخالد ايما واحمد الشرجي ومنعم سعيد. لكن محسن الشيخ الذي غادرنا مبكراً الى أبديته عام 1999 وهو في ذروة عطائه وشبابه المحتدم قد كرس حياته المهنية والاكاديمية لهذا الفن بشكل شامل، فكان مؤلفا وممثلا ومخرجا للعديد من العروض المسرحية الصامتة، معتمدا على قوام جسده الفارع وسحر ايماءات اطرافه وتعابير وجهه بمصاحبة الموسيقى والاضاءة والديكور وصولا الى حالة التجلي الروحية والعرفانية في فضاء المسرح، وهي حالة اشراقية مبهرة لهذا النوع من التمثيل قلما يتوافر عليها المسرح في اي زمان أو مكان، وربما هي الحالة التي قادته الى اعتلال صحته في الاشهرة الاخيرة من حياته، فانطفأ كانطفاء اي نجم لامع في سماء مسرحنا العراقي.

نقد ومناهج

شهدت عروض المنتدى جلسات نقدية فور انتهاء اي عرض ومن دون ابطاء، اذ يكلف أحد نقاد المسرح المعروفين بمتابعة بروفة العرض الاخير لإعداد ورقته النقدية ويكلف آخر بإدارة الجلسة ومداخلاتها المتعددة من قبل الجمهور. وتعد هذه الجلسات في تقديري من أرقي الاستجابات النقدية في مشهدنا الثقافي العام لآنياتها المباشرة وطراوتها او خضوعها الفعلي للجو الخاص بالعرض وحالة المزاج التي تسفر عنه من دون مؤثرات خارجية او استجابات مؤجلة في الكشف عن تجليات العرض على صعيد التأليف والتمثيل والاخراج ودلالاتها الفكرية والفنية والجمالية، ولا اغالي ان قلت: هنا يبدو المسرح وكأنه يتحدث عن نفسه، ويبقى المسرح هو الصائح المحكي وكلام الجلسات النقدية هو الصدى.
ولقد امتاز العقدان الأولان من تأسيس المنتدى ببروز اسماء نقدية واكبت عروض مهرجانات منتدى المسرح السنوية في بغداد، بعضها أكاديمي وبعضها مهني، وبعضها ادبي، وبعضها اعلامي، ومنها: حسين الانصاري، باسم الأعسم، عبد الخالق كيطان، محمد ابو خضير، محمد حسين حبيب، عبد الكريم رشيد، رياض سكران، عقيل مهدي، مالك المطلبي، صلاح القصب، عزيز عبد الصاحب، عباس لطيف، سعد عزيز عبد الصاحب، عواطف نعيم، فاضل خليل، عبد الستار ناصر، كريم شغيدل، عواد علي، فاروق الصالحي، حسب الله يحيى، ياسين النصير، سامي عبد الحميد، علي مزاحم عباس، نازك الاعرجي، حسين السلطاني، ميمون الخالدي، عادل كوركيس، جبار محيبس، فتحي زين العابدين، عقيل ابراهيم العطية.
وليست هذه كل الاسماء، بل اغلبها او الشائع منها التي رافقت المسيرة النقدية لعروض المنتدى احتفاء واعتزازاً بنشاط فني غير مسبوق، واعتماداً على مناهج نقدية مختلفة، منها ما هو آيديولوجي، ومنها ما هو انطباعي او بلاغي او تاريخي او نفسي. ومنها من استفاد من كل هذه المناهج او بعضها في وقت واحد. وكان من تجليات هذه المسيرة تأسيس "رابطة نقاد المسرح في العراق" عام 1998. ومن جهة اخرى نرى ان عروض منتدى المسرح ما زالت اثيرة في الذاكرة، عزيزة على النفس لجديتها المعلنة واحتدامها الملموس وعدم انجرارها الى المسرح الاستهلاكي التجاري الهابط. والمؤسف ان ما استعرضناه آنفاً يخص منتدى مسرح (الاورفلي) الاول، ولا يخص البتة منتدى مسرح (السنك) الثاني. لأننا ومنذ عام التغيير في 2003 لم نلمس مهرجاناً سنوياً او نشاطاً مسرحياً فاعلاً للمنتديات كما كان.
آملين من وزارة الثقافة الانتباه الى هذا الصرح الحضاري الخلاق قبل ان تتصحر الثقافة لدينا ويموت الجمال وعندئذ لا خيار لدينا سوى مواجهة الارض اليباب او صحراء الربع الخالي.
وتلك هي ارادة الحياة ايضاً!