لم تكن الكتابات التي سطرها كتاب تفي بحق الشاعر الراحل كامل جبر العامري ، فقد برز من بين بيوت الفقراء يرسم مستقبله ويلون أيامه ، ووجد العامري نفسه أمام مفترق طرق لابد له أن يختار منها واحد ، فصرف كل الوقت الباقي حين يعود من عمله وهو يساعد والده الطيب الكادح في بيع الشاي بباب مستشفى الديوانية  القريبة من مدرسته الأولى ( الهاشمية الأبتدائية ) ، يستمع لأحاديث الموجوعين والمتعبين ، وينتقي لوحات يرسمها بمخيلته الصغيرة ، ويخزنها في روحه ، فيشتري الكتب العتيقة يطالعها وتتسع معرفته وتكبر مداركه مع بروز ذكاء وقدرة على الحفظ ساعدته ليحظى بمحبة واحترام معلميه ، فتجيش روحه مع دفق المعرفة وعمق التأمل ، فلا يجد من يحلم بتحقيق احلامه سوى أن يصير شيوعيا فيلتصق بشباب تلك الحركة التي تكاد ان تطغي على تفكير كل شباب المدينة الطيبة ،  وحين تخرج من الدراسة الأعدادية الفرع العلمي في ثانوية الديوانية للبنين عام 1962  ، دخل كلية الهندسة حلم الفقراء في ان يكونوا أطباء أو مهندسين  فتخرج منها عام 1965 ،  وتعرض في العام 1963 الى الأعتقال بسبب خلفيته اليسارية ، وتعرض الى التعذيب ومنعه من العمل في اختصاصه الهندسي ، مما يضطره لدخول دورة تربوية يعين بعدها معلما في المدارس الأبتدائية تلبية لحاجاته العائلية والأنسانية ،  ولأن حلمه الحقيقي كان في الأدب واللغة  فقد توجه نحو دراسة اللغة في كلية الأداب – قسم اللغة العربية ليتخرج منها عام 1974 ،  غير أن الملاحقات الأمنية تبقى تلاحقه وتنغص حياته فيتم نقله الى اقصى المناطق في ربوع مدينة دهوك بعيدا عن أهله واصدقاءه ، فيتمكن هناك من مد الجسور ويثبت حضوره وإمكانياته  الكامنة داخل روحه ، ولايجد منفذا له سوى ان يكمل دراسته العليا في الجامعة المستنصرية ليحصل على شهادة الماجستير في اللغة العربية في العام 1982 ،  ويكبر الحلم في مخيلة العامري فيتنوع برسم الكلمات ، يتوجه للرسم فلا يجد ضالته ، فيتوجه نحو القراءات الشعرية التي يتقن القائها وحفظ ابياتها وقصائدها ، ومن ثم يفاجيء الجميع بتلك القصائد العذبة التي تحيل تلك الليالي البائسة والجلسات الفقيرة الى اقمار زاهية ، ومع كل الحزن المترسب في روح كامل العامري الا انه تواق لرسم صورة الفرح في وجوه الناس ، يكتب القصائد ويرسلها بالبريد الى مجلة ( الأداب ) في بيروت ، ويبقى يترقب أعداد المجلة الرصينة والتي تتسم بنشر كتابات وقصائد الكتاب والشعراء المعروفين ، فيجد ان تلك القصائد التي ارسلها منشورة وبأعتزاز ، فتكبر فرحته ويتباهى بتلك القصائد المنشورة ، ومع ان المحيط الذي يعيشه كامل العامري لم يكن يستسيغ الحداثة في الشعر فلم يشعر بتجاوب تلك المجموعة التي تحيطه مع قصائده ،  بالنظر لطغيان القصيدة الشعبية وانتشار تلك الصور الغارقة بالجمال والوصف والتعبير،  فيعمد الى تجربة كتابة القصيدة الشعبية سالكا طريق ومحاولة الشاعر الكبير مظفر النواب في تجديد القصيدة الشعبية ، فينجح أول مرة في صياغة قوافي قصائد غنائية غاية في العذوبة والسلاسة ، فيتمكن عام 1969 من جمع تلك القلائد في مجموعة شعرية أطلق عليها ( كلمات على وجوه الريح ) وهو باكورة اعماله الشعرية ،  ولانتشار كلمات قصائده وبحكم علاقاته الاجتماعية والأدبية والسياسية ، تمكن أن يوصل تلك القصائد المطرزة بصور نابعة من القلب الى آذان الملحنين والمطربين الذين اشتهرت بهم الساحة العراقية في بداية السبعينات ، ولعل التفاتة الملحن محمد جواد اموري الذي عرفته الساحة الفنية بالتجديد والأبداع وتقديم الجديد من الالحان والأغاني الى قصيدة كامل العامري ( جاوبني تدري الوكت بوكاته غفلاوي ) ليغنيها المطرب حسين نعمة بصوته الجميل لتنتشر كالهشيم في النار وتصبح اغنية الجلسات والسمر .

وتتوالى الاغاني التي يكتبها ليختار منها الملحن المجدد الشاب كوكب حمزة أغنية ( أفيش بروج الحنية ) التي أشتهر بها وصعد بها نجم المطرب سعدون جابر ، وهكذا تصبح كلمات العامري لها سمة الحلاوة وسهولة الأداء فيختار منها الملحن محسن فرحان أغنية ( كوم انثر الهيل ) التي اشتهرت بشكل لافت للنظر وغناها المطرب حسين نعمة ، وتتوالى تلك القصائد والأغاني التي تخلد أسم الشاعر كامل العامري ، مع ثبات قدرته في كتابة قصائد النثر المركز والشعر الحر ممسكا بكلا الطريقتين في الكتابة ما يؤكد قدراته الأدبية والثقافية ، وهو الطريق الذي عرف به الشاعر مظفر النواب .

غير أن قصيدة ( بجينه وما بجينه عليك ) التي كتبها وقرأها  في مراسم استشهاد محمد الخضري الذي اغتالته السلطة البعثية بتاريخ 20/آذار/1970 قد تكون اجمل واعمق ما تمكن العامري من كتابته  لتشكل قلادة من قلائد الشعر الشعبي الحديث ، فقد كانت قصيدة بحق ترسم عناوين ملحمة وصور شعبية وكلمات تنبع من جذور الطين الديواني ، تلك القصيدة كانت ملحمة شعرية يتباهى بها الشاعر ـ وقد نشرتها مجلة ( الثقافة الجديدة ) بعد تلاوتها ، والقصيدة تقول :

بجينة وما بجينة عليك
ياجلمة بحلك تاريخ
دكت فوك وجنات الزمان بدور
بجينة بدم سرج مهرة كبل ما يأخذ بثارة ويبشر أور
بجينة شتعتذر بابل  ، بجينة شتعتذر لو عاتبت آشور
فنه الموت يمحمد عليك أيفوت
ندريبك عدل والموت ..بيك الموت..وأنته الموت
يلخطيت بجروحك درب ثوار
يلشكيت من هام السمة للكاع سجة نار
يمحمد...
حمامات السجن يتنشدن ضلن
يمحمد..كطايات الشلب حنن
دكلي شنعتذر للماي واطراف السعف والهور لو عتبن
يمحمد بيارغنه وضحايانه.. تمد فوك الحياة جسور
موش احنه شمس
وافكارنه بدرب الكواين والزمان أتنور
موش احنه حلم ريان
ويرفرف على جفون الصبح راية
موش احنه نبع.. يطلك على دموع الحزن مايه
موش احنه شتلنه ارواحنه ابهذا الدرب ثاية
ما نبجي على ذاك الفاج ماي الموت
واتعنه الوفه وما ذلن أيامه
ما نبجي على ذاك الفارس الما عثرن اجدامه
ما نبجيك هنيالك والف هنيال
كلمن شال زاد العمر بجفوفه
ما نبجيك هنيالك والف هنيال كل خيال
ما هد الرسن مره وطفح خوفه
ما نبجيك ولو ندري البواجي تفيد
ما خلينه من ماي الدمع كطره
ما نبجيك.. لو دمع البواجي يفيد
جا فاد الفرات و(حسن) رد عمره  

وخلال تلك الفترة التي عاشها كامل العامري تعرض الى محن سحقت أيامه وعرضت مستقبله للخطر ، وبالنظر لتمتعه بشعبية كبيرة فقد عملت السلطة البعثية على دفعه الى الحياد ، فالتزم تحت تأثير الحاجة والظروف التي أحاطت به ، غير ان ضميره كان صاحيا ، وتمكن من تمثيل حالة الأنكفاء والانزواء ، وترك تلك الشهرة والأثارة التي تحدثها قصائدة ، مكتفيا بما حقق من شهرة ومحبة باقية وثابتة في قلوب اهله ومعارفة واصدقاءه ، معتزا بتاريخه وما قدمه من مواقف تسجل له ، مستمرا على تمسكه بتلك الوطنية والعراقية الأصيلة ، وملتزما بذلك التواضع والأنتساب الى الفقراء .

رحل كامل العامري  وهو يداوي جراحاته ويختزل تلك الجراح بقصيدته ( حوبة خبزتي أتعثر ) ، رحل العامري بصمت الكبار دون ضجيج  ، رحل كامل العامري نظيفا كما كان لم يتلوث بخطيئة أو يترك أثرا سيئا أو ضغينة في قلب احد ، رحل كامل في شهر نيسان مع بدء تفتح الورد والكلمات العبقة ، ومع انتشار رائحة الهيل ، ولم يزل ينثر الهيل فوق رؤوس الناس كما كان ، باديا فرحا وابتسامة لاتفارقه رغم اطنان الحزن المترسب في روحه  ، متيقنا انه ترك روحه كلمات وقصائد وقلائد مغناة لاتمسح اسمه من الذاكرة ، ولهذا فأن روحه التي أستمرت تنثر حبات الهيل تحوم فوق سماوات الديوانية التي تركها كامل جسدا وهي جميلة وساحرة ، ويهيم بها وفوقها يبكي خرابها  لكنه لايفارقها مطلقا .    

عرض مقالات: