تنهض النصوص الموازية والحافلة بالمتن الروائي بمهمة مزدوجة على المستوى الجمالي والمعرفي بعدِّها مناصات تحقق قدرا من التعالق مع المتن، فعلى الصعيد الجمالي تمنح الحرية للكاتب لاستجلاب وتخليق نصوص تخرج فعالية الكتابة عن المنحى الاستهلاكي الراكد والمتتبع لآثار سابقة، ومن جانب آخر فإنها تتيح للقارئ فرصة استثمار مرجعياته للدخول الى المتن عبر تعالقه مع العنوان ومحتويات الغلاف الخارجي وكذلك مع النصوص الموازية الداخلية، الإهداء، ،الوثائق، النصوص الشعرية، المذكرات وسواها من النصوص المستدعاة من أجناس أخرى، وتوفر امكانية رفعها لأنها نصوص حافة ولا يؤثر رفعها على مجريات المتن الروائي، وعلى الصعيد المعرفي فإن هذه النصوص الموازية تسهم في تكريس التوجه المعرفي وتأكيد وجهة نظر النص الروائي بما يضمن استزادة وتوسيع مساحة الدلالات التي ستصب في المحصلة النهاية في مجرى الوصول الى فهم وتأويل المتن، ووفق ذلك سنقوم بالكشف عن هذه المهمة المزدوجة للمناصات التي تضمنتها رواية " وأرابخا" للروائي سعد السمرمد، وكذلك الوقوف على بنائية الرواية من خلال اعتماد اسلوب استعادة الزمن أو ما يسمى بتيار الوعي.
تضمنت رواية "وأرابخا" مناصات خارجية واخرى داخلية، فقد مارس العنوان وظيفة تحريضية تدفع القارئ الى تقصي دلالته، اذ أن المفردة غير معروفة عند العديد من القراء، الأمر الذي يدفع ويحرض القارئ على الدخول الى المتن الروائي بدافع الفضول لمعرفة ما تعنيه هذه المفردة وعلاقتها بالمتن الروائي، وسرعان ما يتبدد الغموض الذي اكتنف العنوان، اذ تشير العتبة الثالثة الداخلية الى انها "مدينة آشورية، حين بناها آشور، زينها وسجد لها وقال: أرابخا مدينة الذهب".
ولا يتضح الغموض بشكل كامل اذ ان المعرفة بكونها مدينة بناها آشور بانيبال ليست كافية، فهذا الأمر قد زاد من غموضها لتدفع المتلقي الى ما يمكن معرفته عن هذه المدينة القديمة وعلاقتها بالمتن الروائي الذي يكشف فيما بعد الدخول الى المتن ومعرفة مجريات الرواية بأنها قلعة كركوك التي لاتزال ماثلة آثارها في التأريخ المعاصر كما ان اسم حبيبة وزوجة بطل الرواية قد استمد من اسم هذه المدينة ليتماهى الاسمان عبر ارتباط المرأة بالمدينة واعتبار كلا منها ممثلا دلاليا للآخر اعني المرأة، المدينة ليمنح بطل الرواية امرأته بعدا اسطوريا وتاريخيا يكشف عن مدى علاقة الحب التي تربط البطل بحبيبته وزوجته فيما بعد، ولعل تماهي الاسمين لخلق معادل موضوعي بين مدينة الذهب "وأرابخا، كركوك وأرابخا حبيبته" الذي أراد لها ان تحمل قيمة المدينة وعمقها التاريخي، أما صورة الغلاف فقد تضمنت خزانة خشبية مخلوعة الباب احتوت على عدد من المنحوتات القديمة الى جانب خزانة أخرى افقية احتوت أيضا على منحوتات قديمة فيما احتلت لوحة فنية مكانا خلف الخزانة، وتبدو العلائق واضحة بين هذه المكونات ومجريات الرواية والاحالات الدالة عليها، فيما انتصف الغلاف الماء السائل الذي يواصل سيلانه ليمحو الأجزاء التي اشرنا اليها آنفا للدلالة على المحو والالغاء الذي سيصيب كل من وأرابخا المدينة والمرأة والمنجز الفني الذي يمارسه كل من بطل الرواية بعده رساما وأرابخا بعدها فنانة نحت.
فيما اختص الغلاف الأخير بالترويج للرواية وتحريض القارئ على اقتناء الرواية وقراءتها وذلك من خلال تقديم ملخص لأهم أحداث الرواية المتعالقة مع معطيات الواقع العراقي الذي افرزته البنية الاجتماسياسية قبل وبعد التحول في 2003 ، وهو امر دأبت دور النشر على فعله لتوفير امكانية اقامة علاقة اولية مع المتلقي ليدخل الى المتن الروائي بما يضمن مبيعات اكثر من نسخ الرواية، فتقدم تقريرا يدفع من قبل مختص يتضمن أهم مفاصل المتن الروائي وما يمكن ان يشكل دافعا لقراءة الرواية، لذا فإن المناصات الخارجية" العنوان، لوحة الغلاف الأخير" كانت تتمحور حول توفير دوافع التحريض لقراءة الرواية وتقديم علامات غامضة تدفع المتلقي الى فك مغاليق هذا الغموض عبر القراءة ، أما المناصات الداخلية التي شكلت، "اشارة المؤلف ، الاهداء ، النص الشعري" عتبات اولية للدخول الى المتن الروائي، وتعد اشارة المؤلف عتبة اولى وهي كليشيه جاهزة تضمنتها العديد من الروايات والمسلسلات التلفزيونية والأفلام العالمية منها والعربية في مقدمتها، وهي الاشارة الى نفي العلاقة بين احداث الرواية وتفاصيلها وشخصياتها وبين الحقيقة والواقع وبأنها من نسج خيال المؤلف وكل ما يرد فيها ان هو الا من باب الصدفة المحضة، ولعل هذه الاشارة تمارس اغواء للمتلقي للبحث عن العلاقة بين الرواية والواقع، اذ ان المتلقي يعد هذه الاشارة تنبيها الى وجود مثل هذه العلاقة، ولتكرار هذه الاشارة في الآثار الادبية والفنية فقد عدت استهلاكا في طرائق مد الجسور بين الأثر والمتلقي وكان بالإمكان رفعها دون ان تؤثر على تشكل العلاقة بين المتلقي والرواية خاصة اذا ما عرفنا ان دور الرقابة السياسية بات معدوما على المطبوعات الثقافية فلم تعد هنالك خشية من كتابة الوقائع والأحداث متخيلة كانت ام واقعية، اما العتبة الثانية فقد كونها الإهداء المتعلق بتفاصيل واحدة من لوحات بطل الرواية لتأكيد أصالة الخيول العربية مستفيدا من الراكز في مرجعية المتلقي بخصوص صفة الوفاء التي تتمتع بها الخيول بمقابل الخيانة التي مارسها البطل وزوجته في تزوير اللوحات وتخريب الأثار الفنية العراقية التي حصلت بعد دخول المحتل الأمريكي الى بغداد، وكذلك خيانة زوجته له مع الألماني فريدريك، اذ اننا نعد هذا الإهداء بمثابة جلد للذات وعقابا معنويا لما أقدم عليه بطل الرواية وعده خيانة وطنية "الى الخيول الاربعة التي وقفت في لوحاتهم، واحتضنت البياض ودليل الصفاء ، ولم تكن جزءا من خيانة القبيلة".
وفي العتبة الثالثة يضع المؤلف نصا يكشف فيه عن حيثيات العنوان "أرابخا" وقيمتها المعنوية:
واحد وخمسون ضلعا
كشف من أضلاعها مصادفة
حين بناها آشور
زينها، وسجد لها
وقال:" أرابخا مدينة الذهب"، فالنص يشير صراحة الى أرابخا بعدها مدينة بناها آشور بانيبال الذي اعتنى ببنائها لتكون مدينة الذهب للدلالة على جمالها وحسن موقعها.
لقد اسهمت هذه المناصات، النصوص المجاورة للمتن الروائي في تكوين الدوافع وتحريض القارئ على الولوج الى المتن بتوافرها على بنى غامضة تتطلب معرفتها وفك مغاليقها الدلالية، على ان هنالك نصوصا موازية أخرى ادخلها المؤلف في المتون الأخرى وبالإمكان عدها مناصات داخلية لا يؤثر رفعها من المتن على احداث الرواية، اذ اختصت هذه النصوص بوظيفة تقديم خلاصة شعرية مكثفة الدلالة وضعت في نهاية كل وحدة سردية لما جرى من أحداث وبمعنى آخر فقد تمكنت هذه النصوص من الكشف عن ما وراء الأحداث برؤية شعرية مختزلة، اذ احتفظت هذه النصوص القصيرة بطابعها التجريبي عبر تعليقها على الأحداث الواردة في الوحدات السردية لتنسجم مع ما ورد ابتعادا عن النمطية الشكلية في تقديم المتن الروائي.
الزمن الاستعادي
يتوزع الزمن في الرواية على ثلاثة ازمنة وهي الزمن الروائي، زمن الأحداث وزمن الكتابة، الروي وزمن القراءة، فالزمن الروائي يمتد منذ تعرف الراوي بحبيبته أرابخا وينتهي عند موتها وعشيقها غرقا حين كانا في نزهة بحرية، على أن رواية الأحداث الممتدة بين هذين الحدثين قد جرى في خمس ساعات واربعين دقيقة وهو الزمن الذي استغرق الرحلة من مطار ميونخ الى مطار دبي الدولي، وخلال هذا الزمن كان الراوي يسرد الأحداث بضمير المتكلم الذي يشير الى الراوي كلي العلم، الا ان رواية الأحداث لم تتخذ خطا سرديا واحدا وانما جرى فيها تداخل بين الزمنين زمن الروي، الكتابة والزمن الروائي فضلا عن وجود خرق في التتابع الكرونولوجي واعطاء الفرصة لأرابخا لان تروي على لسانها كيفية زواج ابيها بأمها وطبيعة العلاقة مع جدها، اذ اسهمت هذه التقنية في توفير فرصة اكبر للتلقي وكسر النمطية في روي الأحداث، وعلى الرغم من شيوع هذه التقنية في الرواية المعاصرة منذ ستينيات القرن الماضي والتي نبه اليها رواد الرواية الجديدة في فرنسا الا ان المؤلف قد تمكن من اعطاء دور بطولة الرواية للزمن عبر التداخل بين الأزمنة ،ليكون الزمن ذا شخصية مستقلة مؤثرة في عملية البناء الكلي للرواية، كما ان هذا التنويع في الاشتغال على جعل الزمن مكتسبا حياته الداخلية ووجوده المستقل كمحرك للأحداث بما في ذلك الوضع الذي تمتع به الراوي كلي العلم وهو يتنقل بين الأزمنة المختلفة الماضية والحاضرة كل ذلك جعلنا ازاء زمن النص حسب بارت، وفي الوقت الذي شكلت فيه رواية الأحداث الممتدة بين مطار ميونخ ومطار دبي وفق تيار الوعي او استعادة الزمن الذي اكتنف احداثا متداخلة بدأت منذ تعرف الراوي على حبيبته مرورا بما لحق به من اذى خلال حرب الخليج الاولى وسفره وزوجته الى المانيا ووقوعه في شرك صديق الدراسة "عماد" الذي يفلح في اقناعهما بتزوير اللوحات العراقية وبيعها في الاسواق العالمية وخيانة زوجته العلنية مع الالماني فريدريك والنهاية المروعة بغرقهما معا كل ذلك كان رواية داخل الرواية الأم التي ضمت في تكوينها البنائي تفاصيل رحلة الراوي التي تداخل رويها مع الزمن الروائي المستعاد اثناء جلوس الراوي في طائرته المتجهة الى دبي، لذا فقد توحدت الأزمنة الحاضنة لمجريات الرواية بتفاصيلها المختلفة لتشكل زمن النص الذي استحوذ على مكانة البطل الروائي ليكون هو البطل الذي يوجه الأحداث من بداية الرحلة حتى وصول الراوي كلي العلم الى مطار دبي.
لقد بدا الزمن النصي وفق توصيفنا الآنف الذكر بعده شخصية مستقلة وبطلا للرواية وكأنه المسؤول عن اقتراف الراوي وزوجته جريمة خيانة الوطن التي عدها الراوي بانها من افظع الخيانات، ولعل دخول الرواية الى منطقة الوقائع الحياتية عبر التمثل السردي والكشف عن الانتهاكات الحاصلة بحق الفرد العراقي منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى الآن على يد الأنظمة السياسية التي عاثت فسادا واضطهادا بحق الوطن والانسان هو الذي دفع الراوي وزوجته الى خيانة الوطن ويأتي في مقدمة هذه الدوافع الفاقة والعوز الاقتصادي، لذا فإن الرواية على الضد من محاولات الروايات الاخرى تقديم النموذج الايجابي او الشخصية المتعالية لتطرح كنموذج انساني فإنها تكشف وبصدق بالغ مواطن الضعف في شخصية الانسان واستجابته للمغريات غير المشروعة في تحقيق مآربها انطلاقا من مبدا الغاية تبرر الوسيلة تماهيا مع مواقف "عماد" صديق الراوي الذي كان يشكل النموذج البراغماتي والدافع بقوة الى منطقة التخلي عن المبادئ الوطنية والانسانية التي كان قد تحلى بها الراوي.
لقد استطاعت الرواية بهذا التوصيف وكذلك تجريبيتها في استخدام المناصات الداخلية والخارجية ان تشكل تنويعا على ما هو مألوف في استخدام المناصات والسرد الاستعادي ،تيار الوعي والتداخل السردي عبر كسر النمطية الخطية للسرد ، كل ذلك جعلها مكونة لحلقة جديدة تضاف الى الحلقات المكونة للخطاب الروائي العراقي المعاصر وإن تمادت قليلا في الوصف الاستطرادي والتقريري في احايين كثيرة.