من المتعارف عليه لدى المهتمين بشأن الكتابة للطفل عامة وبقصة الطفل خاصة، أن الأطفال يمتلكون الكثير من الاستعدادات الفطرية -- بحكم عدم اكتمال الوعي العقلي لمحاكمة الأشياء والبحث عن العلل والأسباب - لأن يستمعوا للقصة/ للحكاية الواحدة لمرات متعددة، وفي كل مرة يكون استقبالهم للحكاية ذاتها كما لو كانت للمرة الأولى، أي أن عنصر الدهشة، أو المفاجأة سيكون مصاحبا للاستقبالات المتعددة، ولا يمكنه ان يغيب عن ذهنية الطفل، أي أن جميع الأشياء بالنسبة للطفل لا بد لها من أن تمتلك حداثتها وجدَّتها سواء كانت حدثا أو حكاية أو قصة أو خبرا أو لعبة، لذلك كانت الأمهات والجدات والمربيات في ليالي الشتاء وعند الموقد وفي ظل غياب شامل للبدائل التي ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين، "الراديو/ التلفاز /الصحافة/ شبكة الاتصالات/ الانترنيت". وحين نضع رؤوسنا في حجورهن كن يحكين/ يتحدثن ويسردن على أسماعنا الكثير من الحكايات المعادة والمكرورة، عن كائنات لم يرها أحد، وعن حوادث لم يعاصرها آب أو جد، وفي أزمنة عاشها الأسلاف أو سواهم، كانت الحكايات تتوالى مع شيء من التغير في الزمان والمكان والشخصيات، وكنا نستقبل هذه الحكايات بانتباه شديد، ومتابعة دقيقة، وعندما يكون هناك سؤال ما، بالمقابل كانت هناك إجابات جمة لدى المتحدثة، وما أن تشارف الحكاية على النهاية حتى نكون قد دخلنا في نوم عميق، البعض يحاول أن يكمل الحكاية وسط حقل آخر اسمه الحلم، أو يؤجل إكمال الحكاية إلى الليلة المقبلة،
شفيق مهدي الذي كان شغوفا منذ طفولته وصباه بمطبوعات بساط الريح وسمير، لم يستطع أن يتخلص من الطفولة كعالم مدهش، ومن طفولته هو، والذي ما زال يتمتع بطفولة نقية وروح شفافة تأبى مغادرة البراءة والطيبة.
شفيق مهدي وكما عهده متابعو ثقافة الطفل لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال في سبيل متابعة الجديد والحديث في عالم ثقافة الطفل، منذ ظهور الاعداد الأولى لمجلتي السندباد وسمير المصريتين، إنه يمتلك من الخبرة والتجربة والمهارة في الكتابة ما يؤهله لأن يكون في مقدمة أدباء وكتاب ثقافة الطفل في العراق، الى جانب العديد من الأسماء البارزة مثل "طلال حسن، وزهير رسام، وصادق محمد جعفر، وعبد الرزاق المطلبي، وصلاح محمد علي، وحسن موسى، وفاروق سلوم، وفاروق يوسف والعشرات من شعراء وكتاب قصة الطفل والرسامات والرسامين وكاتبات السيناريوهات وكتابيها، لقد كان هؤلاء يمثلون جيلا مهما من أجيال الثقافة العراقية عامة وثقافة الطفل خاصة، مازال شفيق مهدي يمثل تاريخا فسيحا من الطفولة وثقافتها وعالمها العجيب والغريب.
الدكتور شفيق مهدي طفل تجاوز الستين عاما، بين يديه وفي مخيلته كل الأشياء تمتلك غرابتها ودهشتها، وتملك حقوق صناعة المفاجأة، وهو من المتميزين بين أقرانه في كتابة السيناريوهات، وفي حكايات جدو والترجمة عن الإنكليزية، إنه مجموعة اطفال مشاغبون في هيئة شيخ حكيم، مديد القامة، ضخم البنية، ابيض الشعر ،خجول ،عالم من الطفولة في مخيلة معلم، أو في مخيلة أب، أو في تكوين المربي، هل من الممكن أن أقول أن الدكتور شفيق مهدي الواسطي/ الكوتي هو دائرة معارف مختصة بالأطفال، وبكل ما يثير ويتعلق باهتمامات الطفولة/ انسكلوبيديا، قد لا تكون الطيور وما يتعلق بها آخر اهتماماته.
قد لا يشكل القص أو الحكي أو السرد إلا عنصرا أو مفصلا أساسيا فيما يكتب، فهذه المفاصل والاهتمامات لا يمكن لكاتب قصة الطفل أن يتنازل عنها، إنها السداة واللحمة، ولا يعتمد في كتاباته على صناعة الدهشة أو المفاجأة فحسب بل هناك العديد من الأهداف والنقاط المضيئة التي يحاول ان يبعثها إلى المتلقي، أهدافا تربوية وأخلاقية وجمالية وعلاقات عائلية واجتماعية، فهو يعمل على ارسال رسائله من خلال قصة محكية سابقا، إنه يعمل على أن يضيف ما لديه من أفكار ومبادئ وتصورات، وهذا ما يميز الكاتب المبدع عن سواه من النقلة كثيرا، ما تتحول الحكاية إلى مصيدة، إلا أن الدكتور شفيق مهدي لا يرمي بشباكه ويغادرها آملا في صناعة الخديعة، بل يعمل على صناعة الغواية، جر القارئ/ الطفل إلى محتويات فضاء الحكاية/ القصة، عبر صناعة الاختلاف عن الاجترار والتكرار والاعادة لما قاله الآخرون من الحكائين ومن الأمهات والجدات.
شفيق مهدي يعمل على صناعة مختبر قصصي/ حالة غربلة. انتقاء، اختبار، يزيل عن جسد الحكاية الفائض من التفاصيل والزيادات والأحداث، إذاً هناك أفعال تهذيب وتشذيب، من إزالة الإضافات، وما التصق بجسد الحكاية من تشويهات، بسبب تعدد مصادر الرواة، واختلاف اللغات المروي عنها، فالحكايات بالأساس أفعال شفاهية لا يد للمطابع، أو لدور النشر أو الكتب أو المطبوعات، في انتشارها، بل كانت ومازالت، وفي الكثير من الأحايين بنت الشفة، والمادة الأساسية للذاكرة، فالإضافات أفعال من الممكن أن تكون مشروعة، أو أن تكون من الأمور الواردة التي تستوجبها اللغة، ووسيلة النشر والمكان والزمان وأخلاقيات المجتمعات.
الكاتب والمؤلف شفيق مهدي يعمل على إعادة صناعة ومحاولة ابتكار ما يناسبها من الإضافات المتخيلة، من أجل صناعة حالة توافق مع الواقع المحكي، وسيرى المتابع أن شفيق مهدي يعمل على حذف جملة وإضافة أخرى، على إهمال شخصية وصناعة البديل لها، لتتحول الحكاية التاريخية المشتركة مع أكثر من مصدر، وأكثر من أمة أو شعب، تتحول هذه الحكاية إلى نص حكاوي عراقي /محلي، من الممكن أن يتحسس القارئ/ الطفل العراقي مفاصل الواقع الذي يعيش وسطه.
كان من الممكن أن يكون الكاتب أحد أفراد لجنة مشرفة على طبع الكتاب، فالكتاب مجموعة حكايات، والحكايات مكتوبة للأطفال خاصة، والأطفال يتحركون فكريا وذهنيا نحو الألوان والخطوط، أي نحو الصورة، إن مفاصل الفنون التشكيلية لا يمكنها لا أن تشكل مجموعة حيوات متداخلة مع مفاصل الكتابة، فالدكتور شفيق مهدي يمتلك من تجربة العمل في حقول ثقافة الطفل كحالة إبداعية، وفي دار ثقافة الطفل كمسؤول يمتلك كما هائلا من المعرفة، فهناك أكثر من أربعين عاما أو أكثر من الاهتمام والاشتغال على ثقافة الطفل قراءة وكتابة وانتاجا وإدارة ومسؤولية، لقد كانت استشارته من قبل الجهات المعنية بالطباعة أمرا ضروريا من أجل إنتاج الكتاب الاستثناء.
لقد كان من الممكن أن تشكل الحكايات كتابا قصصيا مصورا ذا أهمية كبيرة، كتابا متميزا غير الذي هو عليه، كتابا يعتمد الحروف مصدرا فقط، بل كان من الممكن أن يوفر للفنان/ الرسام/ التشكيلي، والفنان المصمم أكثر من طريقة أو منهج لإنتاج وإخراج كتاب إبداعي يهتم بأدب الأطفال، ويشكل علامة بارزة في عالم الكتابة والطباعة الموجهة لفئات عمرية تعتمد الطفولة مصدرا لها.
ان مشاريعَ إبداعيةً رائدةً لا يمكن أن تخرج إلى القارئ ضمن إخراج طباعي كهذا يفتقر الى الكثير من فن الإخراج الصحافي والطباعة، إذا ما علم القارئ أن وسائل الطباعة الحديثة توفر الكثير من المغريات للقراءة، بل استطاعت أن تنتج نماذج متقدمة لطباعة متطورة، وتوفر للقارئ أكثر من فرصة للاطلاع والاكتشاف والمعرفة، وتقريب النص المكتوب والمصور من ذهنيات القارئ الباحثة عن الغريب والعجيب، بل إن الصورة من الممكن أن تشكل أكثر من هدف ، وأكثر من دعوة لقراءة الصورة، ومتابعة شخصيات والوان وخطوط النص المصور، إن الإخراج الفني الطباعي للحكايات وبهذا الشكل يذكر القارئ/ الأب الكبير بحكايات الجدات التي تعتمد الصوت فقط، بعيدا عن الصورة و مؤثراتها الأخرى.
لقد كان للفنون التشكيلية والإخراج الصحفي أكثر من دعوة للحفاظ على قيم المواطنة، والدفاع عن الوطن، والحفاظ على المال العام، واحترام القوانين والأنظمة والدساتير، وعلى عدم التجاوز على حقوق الغير، وحرياتهم في الاعتقاد والقول والحياة، لقد كانت ريشة الفنان، والزميل النحات كثيرا ما تقف إلى جانب الكاتب، في التعبير عن الجمال والألفة، واحترام مكونات المجتمع، والاشادة بالأدب والثقافة، إ
وتوفير العيش الحر والكرامة للأجيال القادمة،
فالفن يحمل من الإجابات الكثير في الرد على الكثير من المسائل، والاشكالات التي تعترض حياة الفرد والمجتمعات، لقد كان يمثل الوجه الجميل للحياة وللسلوكيات الإنسانية التي يدعو لها مجمل كتاب أدب الطفل والمؤسسات المهتمة به، ولأن هذا الكائن الجديد الذي ما زال يتمتع ببدائية الكائن البشري المنتمية الى الحيوان الأول، فإن الاستجابة للأوامر المفروضة لا بد لها أن تكون ضعيفة، أي أن ردة الفعل لا يمكن أن تكون بقدر الفعل ذاته،
عند هذه النقطة التفت المهتمون بالشأن الثقافي الى الطفل، على ضرورة التقليل من الأوامر الصادرة إلى الطفل، وذلك عبر صناعة الدعوة المحاطة بالكثير من الجوانب التي تدفع بالطفل إلى الاقتراب كثيرا مما يصدر إليه، وإن كانت على شكل نصائح وارشادات، ومن هذه الجوانب الفنون التشكيلية، أو النصوص التصويرية التي تقدم للطفل دون سن الدخول إلى المدرسة ، القادرة على الكشف عما في داخل الحكاية من مدونات وحيوات ، حيث يشكل الفن/ الرسوم، جانبا مهما من جوانب تشكل الحياة الفردية والجماعية للكائن البشري الأول وحتى يومنا هذا، بل إن الكثير من المؤسسات والأفراد اعارت الكثير من الاهتمامات لما يسمى بالقصة المصورة ومن ضمنها السناريوهات ،التي تعتمد بالأساس على الصورة، ويكون الكلام المطبوع مكملا لا مفصلا أساسيا، هذه الوسيلة كثيرا ما تدفع بالطفل إلى المشاركة في تكوين/ تشكيل القصة، إذ يتمكن عبر نص قصصي كهذا ينتمي الى الصورة من جهة وللحرف من ست جهات أخرى، أن يتمكن من صناعة الحوار الذي يدور بين شخصيات القصة، أي كانت نوعها.
كان من الممكن أن تتحول الكتابة بالحروف الجامدة/ المعتمة، رغم ما يتوفر لها من حراك /اضاءة داخل النص المكتوب مما ينقلها إلى عالم الجمال والدهشة، رغم العجائبية والغرائبية التي تعتمدها، في تقديم المشورة أو النصيحة، أو الإرشاد والتوجيه والدعوة إلى المساهمة في صناعة الحياة، حياة الأفراد والجماعات /الأقوام والشعوب، وحياة الأوطان،
لقد كانت ميكانيكية الطباعة هي المسيطرة، بل هي المتفق عليها بعيدا عن التصورات التي تقول: ان هناك كائنا/ طفلا هو الإنسان/ الهدف، هناك قارئ ربما يكون كبيرا أو صغيرا، وعلى صاحب المشروع - المؤلف، جهة الإصدار/ النشر/ المصمم الفتي أن يضع في حساباته أن الحكاية لا يمكن أن تكون موجهة الى الطفل كلاما مكتوبا فقط لكي تتم قراءتها فحسب، بل إن الهدف من الكتابة هي صناعة حالة فنية جمالية --خطوط، ألوان، تكوينات، كائنات. طبيعة. تشكيلات بشرية، حيوانية، وبالتالي صناعة تضافر مجهودات ثقافية تعتمد الكلمة اللون والمخيلة/ جهود أكثر من طرف لإنتاج قصة/ حكاية تنتظر الطفل القارئ بالأساس.
هذه الصورة أو التصور يجب أن يكون في مقدمة مشروع طباعة كتاب "ألف حكاية وحكاية للأطفال" للدكتور شفيق مهدي.

عرض مقالات: