من رواد التجديد في القصة العراقية منذ فترة الستينيات الغنية بالتجارب التي أخذت على عاتقها تغيير ذائقة المتلقي جراء النقلات النوعية في الشعر والقصة والرواية، ومن الذين تمسكوا بطيبة أهله في جنوب العراق ولم تبعده العاصمة بغداد التي درس ونشأ فيها عن تلك الطيبة التي ظلت عالقة داخل قلبه ولا تفارقه حتى بعد رحيله، أنه القاص والروائي والمترجم الراحل غازي العبادي المولود عام 1935 في قضاء العزير الواقع جنوب مدينة العمارة وهو قضاء يغفو على نهر دجلة وقريب من الحدود العراقية الإيرانية.
عاش غازي العبادي في كرخ بغداد بمنطقة الجعيفر وهو طالب في المرحلة الابتدائية بعد انتقاله من مدينته العمارة ، ثم ذهب الى موسكو ببعثة دراسية وحصل على شهادة الماجستير في "الشخصية الهاملتية لأعمال تورجنيف".
غازي العبادي من الأسماء البارزة في السردية العراقية والذي استطاع ان ينقل لنا التجربة الاشتراكية التي كانت في تلك الفترة تعتبر تجربة ذهبية بكل المقاييس، وعن تجربته القصصية فهو بارع في إيجاد شخصيات وهمية يرسمها كما يشاء عبر خياله الخصب وثمة هاجس يظهر مثل شبحٍ يرافق قصص غازي العبادي ألا وهما الخوف والقلق اللذان ظلا يلازمان بعض قصصه فتبدو أكثر متعة وهي تشد القارئ الى ما ستنتهي إليه قصته.
في سنوات الحصار القاسية وصل غازي العبادي الى عمّان وبعده بفترة قصيرة جاء صديقه الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر وقبل أن يستقر به المطاف في الاردن كنتُ قد عثرت في صندوق بريدي في ذلك اليوم من عام 1997 على برقية باسم الشاعر حسب الشيخ تقول:"ان زوجته في ذمة الله"! جئت بالبرقية الى مقهى السنترال صباحاً ولم أجد سوى غازي العبادي الذي كان يجلس في الشرفة لوحده، فشرحت له موضوع البرقية وعلى الفور ملأ المقهى صراخا وبكاء، خوفاً على وقوع الخبر على صديقه الشاعر، ثم قال لي يا ابني هل تعرف مكان سكن حسب؟ قلت نعم، فاستأجرنا التكسي التي توصلنا الى مكان سكن الشاعر حسب الشيخ جعفر. ونحن في الطريق كانت دموع العبادي لا تفارقه.
اتفقت معه بعد ان نلتقي بالشاعر حسب الشيخ أن لا نخبره بخبر وفاة زوجته حتى يحل المساء ونوكل المهمة الى الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي نلتقي عند مائدته الفينيقة عصرا.
ونحن ندخل غرفة الشاعر حسب الذي نهض من فراشه مرتبكاً على صوت طرقنا للباب بطريقة عجولة، وما ان فتح لنا الباب وقبل كل شيء احتضنه غازي العبادي وهو يبكي بقوة الأمر الذي أربك حسب الشيخ وجعله في حالة خوف حتى قال له خبر البرقية المؤلم، أشعل حسب سيجارته وجلس على الأريكة مصدوماً! فقلت لغازي العبادي لم يكن هذا اتفاقنا يا ابا ضفاف.
كان غازي يلتقي يومياً في عمّان بالبياتي الذي تربطه صداقة قوية منذ أيام دراسته في موسكو ولهذا حين وصل خبر وفاة غازي العبادي في بغداد نزلت دموع البياتي غزيرة وهو يتألم لرحيله بعد سقوطه في عمّان على أثر تعرضه لجلطه دماغية حادة بسبب مرض السكري ومرض الضغط وقبلها ضغوط الحياة والحصار!
ان رحلة غازي العبادي لم تكن طويلة عبر سنواته التي عبرت دفة الستين عاما بقليل لكنها كبيرة جدا بما قدمه من نصوص إبداعية عبر كتابته القصة والرواية وما قدم بترجماته من الروسية الى العربية.
قدم غازي العبادي اكثر من عشر مجاميع قصصية وخمس روايات وعلى الرغم من دخوله في اعماق المدرسة الروسية للسرد من خلال ترجماته الكثيرة الى العربية لكن اشتغاله في متون السرد فيه بعض التأثيرات من جيمس جويس وبورخيس ، فشخصياته تسير باتجاهات مختلفة وبطريقة تكاد تكون سرية وتصطدم بهاجس الخوف والقلق الذي يظهر في شخصياته القصصية وحتى الروائية. هادي الحسيني

عرض مقالات: