إنَّ ما أبدعه الإنسان البدائي من أفكار آمن بها روحيًا وجسديًا ومثّلها أدبيًا لا سبيل له لأن يتلاشى؛ بل هو يترسب ويتراكم في صيغ جينالوجية لاشعورية، كانت قد فسّرتها نظرية كارل يونغ باللاشعور الجمعي، مؤكدة أنّ الأفكار المنتجة في عصور سالفة والتي صنعها الأجداد في ماضيهم الغابر ستظل تعيش معنا، لأن الفكر ينتقل ويتوارث ثقافيًا من جيل إلى جيل، في شكل مخزونات مستودعة في الذاكرة الجمعية، ومحفوظة ثقافيا بطريقة ليس بمقدورنا أن نجتثها أو نتنكر لها، لأنها تعمل فينا بفاعلية لا ارادية.
ووفقا لهذا المنظور النفسي سنكون مطمئنين إلى أن ما كان متداولًا في بلاد الرافدين من أفكار في عصر ما قبل الكتابة المسمارية سيظل متناقلًا جينالوجيًا عبر الزمن، وأن ما لم يوثقه التاريخ المدون سيكون متوارثا ثقافيا عبر الأجيال.
ولعل هذا المنظور هو الذي يفسر لنا كيف أن الشعر ظل جزءا من إبداعاتنا على مر العصور، حتى لا يمكننا أن نفر منه و لا يمكنه أن يفارقنا فهو معجون في ذواتنا كموروث انتقل إلينا طواعيا ولا مناص لنا من الامتثال له إبداعا أو إعجابا..
ومن وجهة نظر انثربولوجية؛ فإن أشكال اعتقاداتنا الشعبية والفلكلورية وأعرافنا القولية والفعلية ما هي إلا صنيع ذلك الفكر الاعتقادي الخرافي والأسطوري المترسب في أذهاننا كميراث انتقل إلينا من حضارة كانت فيها الآلهة والكائنات الخارقة العليا تمتلك أدوارا وسطائية بينها وبين القوى البشرية التي توصف بأنها سفلى.
وإذا كان أثر الفكر الديني لا يُنكر في حياة الإنسان الرافديني، وأنَّ لهذا الفكر تمثيلات أدبية نثرية وشعرية؛ فالسؤال سيكون: من ذا الذي كان يقوم بمثلنة الأفكار أدبيا أهو رجل أم امرأة؟ أو بعبارة أخرى هل كان التمثيل الأدبي للفكر أحاديا أم ازدواجيا؟ أيكون من الصحيح القول إن صانع الأفكار ومؤجج المخيلة هو امرأة أم أن الاحتمال الأقوى أو الأقرب إلى الواقع هو أن الصانع أو المبتكر لهذا التمثيل الديني رجل؟
وبدءا فإن ما هو غير مختلف عليه القول إن شعب ما بين النهرين هو أول من اهتدى إلى الكتابة ولكن من أرشده إليها؟ أيكون للأفكار الميتافيزيقية أثر في إنعاش الذهن الشفاهي فحمَلَه على الكتابة على رقم من طين؟
إن نظرة متفحصة في بنائية الحكايات الخرافية والأسطورية ستوضح أنّ الفواعل السردية أو المسرودات كانت في الأغلب أنثوية وهذا يؤكد رسوخ الفاعلية النسوية في ذلك الفكر. ولما كان الأمر كذلك فإن من غير المستبعد أن لا تنحصر غلبة النساء في كونهن فواعل سردية حسب وإنما سيفترض المنطق ان يكون لهن أيضا غلبة أخرى واقعية تتمثل في أنهن كن ساردات على المستوى الحياتي بوصفهن هاديات ومرشدات وربما مؤلفات ومحرضات على تدوين الحكايات والأساطير. وإذا كانت المرأة هي أول من صنعت وألهمت؛ فإن من الطبيعي أن يكون لها القدح المعلى في شؤون الحياة صغيرها وكبيرها وأن لا تكون مجرد شخصية في المخيال الادبي وإنما هي منتجة ذلك المخيال ومؤلفته.
ولو افترضنا أن المرأة الرافدينية كانت في أداء دورها الامومي تمارس فعل الإهداء والتعليم لا الإغراء والتأثيم وأن المجتمع لم يكن ينظر لها بوصفها غاوية أو مغرية فما المبررات التي تسوغ هذا الافتراض وتمنطقه؟
يبدو أن في مقدمة المبررات التي ندلل بها على هذه الفرضية ونسوغ حتمية أو إمكانية حضور الانثى فاعلة مركزية، أن المرأة احتلت في مراحل ما قبل الكتابة مركزية هائلة جعلت منها العنصر الذي يسيّر الآخر ويوجهه، فكانت هي المعلمة والحكيمة والقائدة التي لا غنى عنها ولو أخذنا الحكايات التي دوّنت خارج إطار ملحمة جلجامش لوجدنا العنصر المؤنث ذا مكانة أعلى مما صورته الحكايات المكتوبة فيما بعد فقد حورت دور المؤنث وأدمجته في الملحمة في إطار منظور يخضع لفكر ذكوري منقلب على هذا المؤنث الذي هو الأصل ـ وهكذا أوهَمَنا التاريخ القديم بتعميماته واطلاقيته أن صانع الملحمة ومدونها مذكر مجهول لا غير.
ولا شك أن الحكّاء الرافديني هو جزء من مجتمع، ومن الطبيعي أن يكون فكره مرآة لهذا المجتمع ليجعل للمرئي الواقعي عالما افتراضيا متخيلا وغير مرئي. ولما كان الواقع يكشف عن هيمنة مؤنثة على الحياة فطبيعي أن يؤدي المخيال الفني للحكاء الدور عينه وهكذا كانت اغلب الايقونات النحتية والتجسيمية التي اكتشفت في وادي الرافدين ترمز إلى فواعل مؤنثة ذات هيمنة.
وقد افترض الباحث الألماني ديرلاين أن دوافع صنع الحكايات الخرافية كانت أنثوية اذ قال:"ليس من الممكن أن تتشكل هذه الأشياء في الحكاية الخرافية إلا حينما يكون القاص امرأة لان مثل هذه التجربة لا يمكن ان تتحقق إطلاقا لدى الرجل لكن الثابت أن القصاصين في الشعوب البدائية بالذات كانوا غالبا من الرجال"، واستدراكه الأخير مردود لأنه تبعة من تبعات ما أشاعه النقد الذكوري وحاول الإيهام بصدقه كي نسلم له.
ولا غرابة إذا قلنا إن ما تقدمه ملحمة جلجامش بوصفها تمثل المرحلة التخييلية الكتابية اللاحقة لمرحلة التخييل الشفاهي البكر إنما يدلل على حضورية الانثى كإلهة مشاركة فاعلة تناصف المذكر وقد تهيمن على حضورية العنصرين المذكر وغير العاقل وإن كان في اتجاه سلبي واستحواذي فبدت الآلهة المؤنثة تتمحور أفعالها وتحركاتها حول الشر لترسم مصائر الحيوات آلهة وغير آلهة بشكل لا يمكن إنكاره أو تجاهله.
إن الطبيعة الفكرية وليست الصياغة الشعرية التي تقدمها الملحمة تدلل على أن الآلهة المؤنثة قد مرت بمراحل حتى غدت في هذه الصورة التمثيلية وبقولبة شكلية لغوية. وعلى الرغم من أن تلك القوالب انحازت لصالح المذكر إلا أنها لم تستطع أن تلغي ذلك الامتداد الفكري للمخيلة النسائية في مرحلتها الشفاهية فقدمته في شكل شعري هو في حقيقته مجموعة حكايات خرافية وأسطورية تمت شخصنتها بإلوهية أمومية ضمن عالم وهمي ميتافيزيقي فيه النساء فاعلات ومسيطرات جنبا إلى جنب مع الفواعل الرجالية الإلهية والبشرية، إذا ما علمنا أن الآلهة المعبودة ليست سوى انعكاس لواقع بشري محدد. والمادة الفكرية التي تمثلت في الولادة والإخصاب والخلق والأمومة كانت قد تغلغلت في كل مقطع من مقاطع الملحمة ومفاصلها.
ومن المؤكد أن المركزي يبغي دوما المحافظة على موقعه ولما كان موقع المؤنث أساسه المخيال ممتزجا بالواقع صارت اللغة هي الأداة الفاعلة وحجر الزاوية في تلك المركزية الأنثوية كوعاء يفرغ فيه العنصر المؤنث أفكاره وتصوراته المخيالية ليتلقفها الناس شفاهيا في إطار سيرورة قدسية طوعية. وما دامت الأفكار التأنيثية شفاهية فإن النسيان قد يعتريها وقد يضيع بعضها وربما يتهافت أيضا مع مرور الزمن. وطيلة المرحلة الشفاهية كانت السيادة للأنثى بوصفها الأم وكان الذكر هو الابن والوليد الذي أرادت منه الأم أن يشاركها ويدعم مركزها ويديم لها سطوتها ..فهل سيتحقق هذا لها أو أنها ستجد العكس أي أنه سيضعضع كيانها ليثبت وجوده بالضد منها ؟!!
لا مناص من أن العصر الذي سادت فيه الأمومة كان شفويا وعصرًا يوتوبيا هو بمثابة فردوس أرضي تسيّدت فيه الإناث سواء في البنوة أو الأمومة أو الانتماء المجتمعي..وهذا ما تدلل عليه الأدوار المركزية التي أدتها المرأة الرافدينية، مسهمة في التأسيس لقاعدة الفكر الرافديني الإبداعي الأدبي، على الصعيدين الحياتي وما بعد الحياتي.

عرض مقالات: