حين ذكر إليوت بأنه لا يمكن الاستعانة فقط بالوقائع والتطورات الحاصلة عليها، بل الاستعانة بأنساقها وعناصرها ورموزها. وهو نوع من التداول بين الموضوعي والذاتي. وهذا يعني أن رؤية الظاهر، غير رؤية ما يتركه من أثر نفسي على الداخل، أو الذات.

بمعنى أن يكون الانطباع الذي تـُجسده القصيدة يخضع لما هو مضمر، فهو المحرك الأساسي، والمترجم والمختزل لما هو مشاهَد، فنحن بصدد ما هو مضمر في النص الذي يخضع لمكوّنات مختلفة تترك أثرها في نسقه غير الظاهر. أي أن النسق الخطي للنص يحمل وجها آخر لابد من التوصل إليه، عبر مجموعة مكوّنات، لعل اللغة مركزها. وفي هذا تكون اللغة الشعرية هي المَعبـْر لمثل هذا التمثيل للواقع، من خلال تصعيد صورة ما هو مشاهَد ومُعاش وخالق للانفعال الوجداني. لذا نرى أن قصائد الشاعر "سامي هادي" تتعامل مع اللغة من باب التفاعل والمزج بين ما هو مرئي وبين ما هو متصور أو متخيّل. فهو لا يكتفي بالمخيـال مبتعدا عن صورة الواقع، وإنما يحاول أن يُمسك بالجمرة المركزية التي تعكسها اللغة الشعرية بما تتضمنه من انفعال وجداني، فلسفي، يرصد الحضور الذاتي إزاء العناصر المُصادرة لكينونتها، ويتعامل مع الغياب والحضور على أساس الجدلية القائمة جرّاء دفعات الواقع بكل مكوّناته، حيث تكون المفارقة، والجدلية بين الأشياء والصور والأحداث هي ما يُفعّل المشهد الشعري، ويخلق مناخا متحركا يضفي حيوية عليه من خلال حراك اللغة باعتبارها المثابة الممسكة بمقود التصورات لما هو حادث ومؤثر والمنعكس على الذات، كالحروب مثلا، التي أراها مسيطرة بفعل ترك آثارها على المناخ الشعري، الأمر الذي دفع الشاعر إلى تجسيد ما هو جوّاني ودافع لمقاومة تأثيراتها، ومنعها من السيطرة والاستحواذ على المشاعر والأحاسيس.

إن قصيدة "سامي" تجنح إلى تجسيد المفارقة كما ذكرنا، ليس في اللغة فحسب، وإنما في ما هو يُشكـّل العلاقات القائمة داخل بنية الواقع الكلي والجزئي، محاولا تحقيق ــ من خلال هذه المتضادات ــ المفارقِة التي تـُظهر ما هو فاضح لهذا التأثير. فلغته كثيرة الحساسية، تصل إلى حد التمرد على مكوّنها الخطي، كما سنلاحظ، محاولة عبر تراكيبها الخالقة للمجانسة بين المفردات ذات التعبيرات الذاتية الخالصة، بحيث يخلق بينها علاقات بالدلالة التي ترمي إليها أو ترمز لها. فاللغة عنده ذات نسق وصيّغ مفارِقة، بالرغم من بساطتها وابتعادها عن الغريب والمعقـّد سواء كان في المفردات، أو من العلاقات القائمة بينها لتشكيل الجملة الشعرية.

ففي قصيدة "لا منزل هناك يشبه البحر" نراه ينحو من خلال العنوان إلى أن يؤكد على المُطلق، بدليل المحدود في السعة. إذ يولي عناية بالمطلقات، لأنها دليل النزوح إلى خارج النمط أو الساكن. فالمنزل هو مكان الاستقرار والألفة. ورغم ذلك نلحظه يبحث عن الحرية في المطلق ــ البحر ــ وهذا يعكس حالة الحس الوجداني إزاء المكوّن المكاني المنتـِج لقيّم متعددة. ولأنه يبحث عن الحرية الذاتية في المطلق، نجده يوفر تشوفاً متداخلاً في فضاء القصيدة :

"كانت كمنجة تـُحادث المرآة، وتبصر رقص ترنيمة، في ليل أهدأ من نافذة /

تحكي لشمعة ذكراها"

ولنبحث عن صورة المؤثر والأثر المتروك على الذات. فالكمنجة نظير المرآة، هما مطلقان جماليان. الأول من خلال النغم، والأخرى من منطلق الرصد والانعكاس والمشابهة. لذا فتناظرهما دلالي. لا سّيما ما ترشحه هذه الرؤى من إظهار نتائج هذا التمرئي الذي يكشف عن مجموعة صور محصورة في جمالية الأشياء كالرقص والترنيمة، والنافذة والشمعة والذكرى. وهذه المكوّنات اجتمعت لِلـّمْ العناصر وتشكيل صورة تعاكس المؤثر. ولعل مسار القصيدة، يُظهر صور مؤثرة أخرى كحكاية الطفولة، والوصول إلى صورة المرآة كرمز لظاهر الحرب، في كونها لا "تـُدفئها لوحة متشحة بالسواد". وهي صورة أكيدة لما حدث، أو سوف يحدث. حيث يختم القصيدة بـ

"أية هجرة هي تلك التأملات التي تعرض في كؤوس الغربة، فيعسر عليَّ

القول على سلــّم الثلج، لأسأل الحمائم، ألم يحن بعد أوان العودة بعد ؟

وأقول للصخر، أولدتَ هنا، أم أن الريح جرفتك عنوة"؟

وفي قصيدة "حرب أرجأت هجرة الطيور" نلحظ المفارقة أيضاً من العنوان وهو يتصدى للحرب علانية. غير أنه يتعامل مع المؤثر من خلال التأثير على الجمالي وصور البراءة المتمثلة في الطيور. وهي عبارة تمتلك إيحاءات كثيرة، لعل أهمها براءة الأطفال من براءة الطيور والشجر والماء. فالحرب تمحو المكوّن الأول للحياة، لا بدماره الوجودي فحسب، بل بالإبقاء على وجوده الدائم المعلول. ففي مستهّل القصيدة يتصدى الشاعر إلى أهم ما يفرزه هذا المؤثر، وهو يُجسّد صورته في الأشياء:

"عبث أن تبصر برؤى الحقول، سماء المرايا التي لا تزال أنفاس أصلب القـُبل،

ملتصقة بها، أنا هنا أنتظر قلق أنغام الوغى، حاملاً أشد التواريخ الميالة إلى

اللون المادي، لا أحد يعرف لِمَ أرنو بالنار إلى معجزات الماء"

وهو مفتتح عكس أول التأثيرات في صورة شعرية جميلة هادئة، لا يشوبها التعقيد. إن القصيدة تتعرض لظاهرة الحرب من باب الأثر والتأثير، من دون اللجوء إلى تضخيم الأشياء المشاهَدة، وإنما ملاحقة الوجداني الذي يسقط عليه الأثر :

"آه.. أنني لا أبلغ ثانية الأحاديث التأملية، لتلك المدن الفاضلة التي علمتنا

قـُبل الموت، هنا... من ذلك الزقاق التي توقد النوارس، الفوانيس في موهن

الليل، هنا... تعترى الشبابيك كلها، بوجه سماء واحدة"

وتتضمن القصيدة أيضاً مشهداً يُظهر تأثيرات الحرب، وما تـُسببه من ضياع وسط مفارقات كثيفة، تضع الإنسان في فضاء التغريب والغربة النفسية :

"رجل ضيّع في الحرب وجوده، وأسئلة في ذلك المضيق، تستنطق

أكبر القلق.، أيتها الحروب، أيتها الحروب، أي ورد كنتِ، رجل وحيد

خلف الغيب، في العصور الجليدية للكرنفال، مرتدياً زي كهوف التعاريف"

وفي قصيدة "توابيت الفانوس" يسترسل في عكس المَشاهِد الحسية، وهي لا تبتعد عن تأثيرات الحروب، بقدر ما ينغمس في أتونها ليُظهر ما انعكس على ذاته:

"الليل لا يلتفت إلى حدائق تتلو دفن الأوراق، وتقول الأمواج الحمر لليلة القمراء:

إن أكثر أنغام الضياء خجلاً، دفنتها المواسم، اشتعلت المدافن، والنوطات

الخمرية، تأملن في نوافذ، أتقنت حكي شيخوخة التفاح"

إلى أن يصل إلى حد وصف شعوره إزاء الخراب، ليستنطق نهايات الأشياء:

"فلا تنتظريني إذن أمام باب رمانات غاية في الصغر، والشوارع، ضيعّتها

الظلال، اعثري عليَّ تحت تلك الأحاديث، حين قال لهنَّ الندى : ما العشق

يا ترى؟ فقلن، كان ثريا من مطر، أدى في عربات لهفة الأوراق،

رقصة الردى".

وفي قصيدة "نوطة نبيذ معتق" يستظهر الذات، من خلال ولعها بالوجود، وما يضمره من صور خفية مؤثرة، حيث نجده يتصل بالذات مباشرة، ليكشف مثل هذا الولع، وبروز التغريب لتاريخ وجوده، وتاريخ الأشياء من حوله :

"يا طائر حلمي البارد الأكثر توغلاً في الشرق، متى يحين موسم الدفن، ها أنا ذا

في غابة طاعنة في السن، أبحث عن شيخوختي"

إن الاغتراب الذي يعيشه الشاعر حسياً، متأت من المفارقات التي ينتجها الوجود، فلا يكون له إزاء هذا سوى الامتثال والدنو من الحقيقة، بسبب القهر الروحي والنفسي الذي يكابده الإنسان نموذج القصيدة. فهو تواق الى التمرد والسمو بذاته، لا الانصياع الى تأثيراتها الدائمة:

"أبصر بلاغ أحلام غربتي، وفي غياب اللحظات، يجلب لي نغم خافت

سكوت النوافذ، ذاك أنا، في سلـّم السفر لم أعثر على خطى أقدام

سماء، ما عدا العيون المتحجرة، لم يحك لي أي جسد حلم الأبدية،

ما زلت أتلقى صوت شذى آلاف الورود، في المياه المفتقرة إلى الأناشيد"

ما نود أن نؤكده في مكوّنات قصيدة الشاعر؛ كونها تستجمع أسسها عبر مستويين من الاستخدام الأول : يميل إلى التوغل في بنية المجريات التي تخزنها الذاكرة، والثاني : ذو ميل إلى التركيب اللغوي، الذي يعتمد الخروج عن مألوف الاستخدام والمواءمة بين المفردات، بحيث يخلق لها مجالات تعبير أكثر تأثيراً في شعرية القصيدة كما في العيّنات أدناه :

"نحن نسرد سيرة تفتح حدائق فواميس"

"رجل يسرد جليد أديان العشب"

"غالباً ما تعرض وجه فحولتها خارج النزوات، أيتها الفتاة، يا كتاب

نهارات أديان الفحم"

لا نهجع في أزقة الأقنعة"

"نردد ترانيم الثلوج الهامدة على النيران"

"خليلي قامته أشبه بالنحيب الأخير لجايكوفسكي الذي صيّر الرجل مرآة

في نهنهة السمفونية الخامسة، والمرآة، بحراً ضاعت فيه معاني

الوسوسة كلها في عربة شرقية"

والأمثلة كثيرة على ذلك، حيث يُغني الشاعر جملته الشعرية، بسعيه إلى وضعها ضمن مصافي الدلالة خارج نسقها الخطي.

عرض مقالات: