ما كان لعشتار أنْ تتمادى في طلبها من آنو الانتقام من جلجامش، لولا عزم الأخير على التباهي بصفاته الذكورية الماردة من قبيل سعيه إلى إغواء النساء، وانه هو الراعي والقوي والجميل والحكيم الذي لم يترك عذراء لحبيبها ولا ابنة لمقاتل ولا خطيبة لبطل.
وما كان انتقامها لحظة نزق عابرة؛ وإنما كانت تسبقه شكوى مريرة دائمة من أفعال جلجامش وبسبب هذه الأفعال صنعت ارورو انكيدو غريما يضاهي جلجامش وهو أيضا ما طالبتها به الإلاهات كي يلقنّ جلجامش درسا.
وحين دخل جلجامش الغابة وشاهد جبل الأرز الخاص بالإلهة أرنيني/ عشتار التي هي "روح الغاب تعبق أنفاسها في كل دغل أو بستان" أثار كل هذا في نفسه الغيرة، وقد هاله ما لعرشها من مكانة لذلك تملكته الرغبة في إثبات قوته، فعزم على قتل حارس الغابة وساعده الإله شمش في إبراز بطولته وهكذا انتصر مبددًا مخاوف انكيدو الذي ما كان مريدًا للغلبة الذكورية أن تكون لأن مقصده الحقيقي كان روحيًا وهو بلوغ عرشَ عشتار. أما مقصد جلجامش فكان جسديًا بطوليًا وهو قتل خمبابا.. وهذا ما جعل عشتار ترى في مقصد جلجامش إهانةً لها.
وفي هذا الجزء من الملحمة تتعقد القصة، وقد انتهى الانقلاب الذكوري ليبدأ الانتقام الامومي وهذا ما كانت قد عبرت عنه أساطير الشعوب الأخرى، ففي الأسطورة الإغريقية مثلا يكون مجيء المرأة الأولى بندورا من السماء إلى الأرض من أجل أن تنتقم من برومثيوس إله الأرض وعباده البشر الذكور، عقابا لهم على سرقة النار المقدسة.
وإذ تأخذ عشتار بأداء دورها الانتقامي من جلجامش فإنها في الوقت نفسه لم تنتقم من انكيدو لأنه مشترك أصلا في مقصد استعادة السلطة الأنثوية وهو القادم من زمن الأمومة الذي هو نفسه زمن عشتار التي كانت في بداية الملحمة هي الإلهة المقدسة في معبدها إيانا وهي التي سكنت الغابة المقدسة ومن أسمائها الجليلة والعظيمة.
وعلى الرغم من أن الأستاذ ناجح المعموري في كتابه "المسكوت عنه في ملحمة جلجامش" قد أكد انغماس عشتار في الفعل الجنسي الدائم، مستبعدًا أن تكون هي السيدة المتحلية بالحكمة والعقل؛ إلا انه اعترف أن" للمرأة دورها الفاعل والمعترف به واستطاعت.. تحقيق قوة الحضور المتعادل بين الحلم والمتحقق والحضارة والهمجية وأن الغواية.. تعني الاعتراف بالدور الذي بإمكان المرأة النهوض به وتوحيد ثنائية الفعل الاغوائي والمعرفي معا" الكتاب.
ولعل الذي جعل انتقام عشتار كبيرًا، ما ألصقه جلجامش بها من تهم بصفات أنثوية سلبية كالإغراء والمكيدة مشيرا إلى ما فعلته بتموز والطير والأسد والحصان وراعي القطيع والبستاني:
أحببت طائر "الل" المرقش
لكنك ضربته وكسرت جناحه
وهذا ما جعلها تستشيط غضبا.. ولكي تباشر عشتار بفعلها الانتقامي من جلجامش سالب الإلوهية الأنثوية والمتباهي بسطوته عليها أمرت بإنزال الثور السماوي... وما استعانتها بالثور الوحشي إلا دلالة على انهيار الثقافات الامومية وصعود الثقافات الذكرية. وإذ ينتصر جلجامش تجمع عشتار حولها الإلاهات اللواتي ما كن منفردات في تصرفاتهن ومعهن بنات المعبد وبغاياه للبكاء والنواح على الثور السماوي.
وفي هذا توكيد أن مجمع الآلهة المؤنثة ظل مجموعا ومتحدا بعكس مجمع الآلهة الذكور الذي كان كل إله فيه منفردا بنفسه متباهيا بقوته وهيمنته.
وهكذا كانت سطوة المرأة في المجتمع تتجه صوب نشر الخير على الأرض أما حين تمكن الآلهة الجدد من أبناء ارورو الذكور من الانقلاب عليها فإنهم أبدلوا الخير بالشر.
فصوروا الانثى هي سر الشر والإغواء وسبب الخطيئة وهذا ما ساد منذ ذلك الزمن حتى تداخلت الأسطورة بالدين وقد عالج الناقد نصر حامد أبو زيد في كتابه "دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة" مكانة حواء بين الدين والأسطورة من خلال مرويات جاء بها يهود اعتنقوا الإسلام فوجد أن من تلك المرويات ما يؤكد أن العقاب الذي أوقعه الله بحواء عقاب دائم وأنه لا فكاك منه.
وصار من أدبيات النقد الذكوري أن عشتار امرأة لعوب تقع في حب جلجامش وأنها هي التي أضاعت على جلجامش الفرصة الذهبية التي أرادتها الالوهة المؤنثة لصالح البشرية.
فوصفوا عشتار بكل الصفات السلبية كالشهوانية الماجنة والشبقية المفرطة والمكائد الداهية وغيرها من الصفات التي ألصقها بها المخيال الجمعي الذكوري.
وفي المواضع المخرومة من ملحمة جلجامش نلمح كيف أن النقد الذكوري حاول ملء فجوات هذه المواضع بمخيال البطولة. وإذا كان نقدنا الذكوري المعاصر قد اعتاد تسمية جيل من الشعراء باسم الشعراء التموزيين الذي كان جبرا إبراهيم جبرا أول من أطلقه واستعمله وعدَّ تموز رمز الديمومة، بيد أنّ هذا النقد بالمقابل لم يعتد أو بالأحرى يقبل أن يطلق على جيل من الشعراء والشواعر اسم العشتاريين أو العشتاريات بل الادهى أنْ قلما عدَّ الباحثون عشتار رمزًا للديمومة.
وجدير بالذكر أن السياب في قصائده المطولة التي أدى فيها دور تموز أو اورفيوس، أراد أنْ يعلي من شأن عشتار أو عشتروت أو افروديت أو يوريديس فجعل تموز رمزا للموت. والذي يقرأ قصيدة "شباك وفيقة" مثلا سيجد أن السياب تقصد جعل عشتار/ وفيقة رمزًا للحياة وليس الموت انتقاما وثأرًا، متوسلًا إياها ومتقربًا منها لعلها تنجده.
ولم تكن عشتار وحدها قد أدت الدور الحكمي؛ بل كانت سيدوري قد مارست الدور نفسه ومن ثم ادت عملا صعّد مستوى التحبيك ايجابيا وليس سلبيا، وهي تحاول إفهام جلجامش وتعليمه وهي القائلة:
إلى أين تسعى يا جلجامش
ان الحياة التي تبغي لن تجد
إذ لما خلقت الآلهة العظام البشر قدرت الموت على البشرية
واستأثرت هي بالحياة
فكيف بعد ذلك تصرُّ الادبيات الذكورية على عدها سلبية وأنها كانت تمارس دورا اغرائيا وفعلا اغوائيا وأنَّ الخير لم يكن له عندها أيُّ مبالاة أو اهتمام ؟!!
ولقد انخرطت الإلهة ننسون التي هي والدة جلجامش في أداء الدور الحكمي الامومي أيضًا حين ناصرتْ ولدها وشجعته على ملازمة انكيدو والإفادة منه والدفاع عنه.
وبهذا تكون الإلهات الإناث كلهن ممارسات لفعل الهداية لا الإغواء وهذا ما قادهن دوما إلى الخير؛ وإلا ما انتهت منازلة جلجامش وانكيدو بصداقة، وما كان لعشتار أن تنتقم إلا لأجل إعطاء جلجامش درسًا، به سيعرف أنَّ البطولة الحقة ليست جسدية. وفعلًا تلقن جلجامش هذا الدرس الكوني الأزلي الذي أتضح حين انفرجت عقدة القصة في الملحمة وتبين الهدف الذي سعى ناظمها إليه.
الالهة عشتار.. رمزٌ للديمومة أمْ أداةٌ للانتقام؟
- التفاصيل
- د. نادية هناوي
- ادب وفن
- 4116