شكّلت صور البنية الاجتماعية والتاريخ الشعبي الأسس القارّة لنصوص خصت الاستعادة لتاريخ الأمكنة المشكلة لتاريخ المُدن. وهو ما نطلق عليه الاهتمام بالمسكوت عنه، أو المنسي في الوجود. فلو استحضرنا مفاهيم أمثال "المتن، الهامش، المركز"، لوجدنا أنها تصب في صورة معنية باستحضار المسكوت عنه هذا، والذي حفظته ذاكرة الأفراد والجماعات في مجتمعات ارتبط تاريخها بالحيف الاجتماعي، بما فيه الفئوي والطبقي، ثم السياسي. ولهذه المفردات كمتعلقات ثقافية محاولات التسلل إلى بنية معرفة الأسس التي بنيت عليها مثل هذه المفاهيم التي بدورها وعبر الأزمنة أسست لرؤى واضحة، أكدتها الممارسة في صناعة النص، لاسيّما منه القصصي والروائي والنثري، أو ما نطلق عليه النص المفتوح على المعارف. فلو أخذنا مثلاً المتن بالمفهوم الثقافي، لاستوقفنا ما يعنيه من بنية راسخة تمثل مجموع الرؤى المتعارف عليها. وهذا يشمل كل أشكال الوجود الإنساني، بما فيها الأخلاق العامّة. أما الهامش، فهو متعلق بكينونة جماعة وضعتهم الأزمنة في الزوايا مركونين لا تاريخ لهم في نظر الجماعات التي همّشتهم وعزلتهم.
أما المركز فهو يتصل بالمتن من باب المعرفة، لكنه يبتعد من جانب السلطة بكل أشكالها. لذا نجد أن الصراع الدائر بين هذه الأقطاب من استوقف ذات النص لفضّ ذاكرة كل الأطراف. فالنصوص هذه حاولت أن تصنع لها مجالاً يتسع لذاكرتها. وفي هذا نجد في كتابات "خضير فليح الزيدي" مثل هذه الصناعة، خاصة كتاباته عن المكان. هذه الكتابات تعمل على أحياء الأشياء والرؤى المضمرة، وغير المسموح لها وفق القانون والعُرف الاجتماعي، كذلك بسبب تضييع الهويات ومحوها. لاسيّما تاريخ المُدن المنسي، والمتمثل في نماذج القاع. فالعفة الطبقية تحاول زيادة اللثام على مثل هذه الصور بشكل يمحو وجودها، وتماهي تاريخها، لأنها تعرف جيداً قدرتها على تعرية الزائف من الظواهر المواكبة واللاحقة لوجودها. فالمنسي صانع للوجود والكيان، لأنه تاريخ جسد العلاقات الإنسانية، ومنح الإنسان والمكان هويته الحقيقية، كذلك ارتبط بشكل مباشر بالظواهر الفكرية "السياسية" التي تغلّب مصلحة المسحوقين. لذا نجد إن مثل هذه المُدن قد أنتجت نماذج من المفكرين ومن ذوي الاهتمام الثقافي والمعرفي الجدلي، مضافا إلى ما تركته من صور نماذجه في التاريخ. لعل كتاب " عبد الحسن على الغرابي "الموسوم" اجتياز المتن" واحد من تلك الكُتب المهتمة بصناعة نص له علاقة بالهامش. فالعنوان يمنحنا لحظات التفكير في صناعته تشكيلياً ومعنى. ففي الأول نجد أن مفردة "اجتياز" بالحجم المتجاوز لحجم وطبيعة مفردة "المتن". فالاجتياز هنا فعل عبور المتن، باتجاه ماذا؟ سؤال يبحث عن جواب ضمن التشكيلية الخطية للعنوان. والجواب: لا يوجد ووفق محتوى الكتاب غير "الهامش". أي أن الاجتياز هو العبور من المتن إلى الهامش، الذي شغل الكثيرين ومنهم الكاتب، الذي ترعرع في مدينته الناصرية، وخاض غمارها منذ الستينيات من القرن الماضي، ونعني بذلك تأسيسه لوعي اجتماعي وسياسي، يعرفه كل من عرف الكاتب وانحداراته الطبقية، فهو سليل طبقة عمالية، ارتبطت بصعود ونزول القطارات الصاعدة والنازلة على الأرض العراقية. فذاكرته محتشدة بالصور. ومدّخراته متوّفرة على التنوّع والنادر، لذا نجد في مدّخرات الكتاب تنوّعاً، وحفراً في ذاكرة المدينة وما أنتجه أبناؤها البررة. حيث اجتمعت متون الكتاب على تنوّع في الكيفية التي كُتبت فيها. فهي جامعة للمذكرات زائداً تدوين الانطباعات على مؤلفات، أو استعادة ظواهر. وهي في جملتها حاملة لبنى مؤسسة لواقع منسي أو مسكوت عنه. فإذا تناول جزءاً من حياة الشاعر العصامي قيس لفته مراد" فإنه استحسن عرض كتاب الأديب "ياسين خضر النشمي" المعنوَن "القصيدة الضائعة" ويعني بذلك ضياع دواوين الشاعر بسبب حياته غير المستقرة، فديوانه المخطوط "آلهة الرماد" من بين الكثير من دواوينه الضائعة، وقصائده المطوّلة. فهو شاعر كان له اهتمام بالتاريخ السومري، والهم الصوفي الذي تجسد في ديوانه "أغاني الحلاج". كما وأنه شاعر مولع بالرسم، فمشاركاته في المعارض كانت متميّزة، وهو من بين مرافقيه الدائمين القاص والروائي والشاعر والمترجم "أحمد الباقري" الذي لم ينصفه التاريخ بعد، وهو قامة تربى بموازاة حياة الشاعر" قيس لفته مراد" الأدبية والإنسانية. ومن جملة ما كتب، مقالة عن رواية "ممر إلى الضفة الأخرى"، وهي رواية دوّنت بفنية روائية تجربة الثوار في هور الغموكَة، معتمداً على مذكرات المناضل" عقيل حبش" ورفاقه" حسين ياسين، مظفر النواب ومنذر أحمد زكي وكمال كمالة". وفي ما كتب عكس رؤيته للرواية وحساسيته التي تعلقت بمرحلة مهمة من تاريخ العراق المعاصر. لعل حوادث هور الغموكَة رافقها حراك سياسي وثوري، تكمن صوره في ذاكرة كل من عاش المرحلة من أبناء المدينة. ولم يبتعد الكاتب عن الشخصية المؤثرة في ثقافة المدينة، التي تعدى تأثيرها إلى الثقافة العراقية والعربية، وهو المفكر عزيز السيّد جاسم، حيث تناول المفاهيم والأفكار التي أسس عليها الراحل وجوده الفكري. وأكد كثيراً على ما يعنيه مفهوم الحرية عند هذا المفكر، الذي عانى كثيراً من جور الأزمنة، حتى استشهد على أيدي الجلادين.
كما وأن الكتاب احتوى على مقالات خصت مفكرين منهم "مارك توين والأديب الصيني لوسين، غوغول، علي الوردي، أحمد خلف، حنون مجيد، جاسم عاصي".
هذه المقالات انطوت على وجهة النظر والتحليل الفكري والأدبي الرصين. كما وضم الكتاب مجموعة قصص قصيرة بقلم الكاتب، وهي في جملتها نصوص ذات رؤى اجتماعية ونفسية، تناول خلالها الظواهر الاجتماعية، وما تشكله من عُقد نفسية. وهي قصص لها ارتباط بالتاريخ المعاصر، لأنها تناولت ظواهر مستجدة ودخيلة على بنية المجتمع العراقي كتفكك العلاقات الاسرية والاجتماعية. فقصصه تتميّز بالبساطة في الأسلوب واللغة، لكنها تتعمق في التناول السردي لمجمل النماذج البشرية والظواهر الاجتماعية والسياسية وأمكنة المدينة.
إن التنوّع الذي حظيت به مفردات الكتاب، وضعه ضمن دائرة تنوّع الرؤى والتجوال بين دوائر متباينة في طبيعتها كما ذكرنا. لكنها في مجمل ما تناولت، كانت على تماسّ مباشر مع ما أشرنا إليه في التقديم، من أن النصوص ترتبط مباشرة بالذاكرة الفردية والجمعية، وبالتالي بذاكرة المدينة التي ضمتنا جميعاً، كصوّر مشرقة على جدارها الصلب. وبهذا استطاع "الغرابي" أن يجتاز محنة السكوت عن المهمل والمهمش، ووضعه موضع المتن والمركز، شأنه شأن الكتّاب الآخرين.

عرض مقالات: