ارتبطت معظم روايات أنعام كجه جي بالوعي العام لمفهوم الغربة والحنين للعراق، وتداعيات هذا الشعور وانعكاساته على الإنسان والمجتمع، فشكلت الغربة هاجسا لاحق أبطال نصوصها وكانت البوصلة التي توجه دفة حياتهم الآنية، وموقفهم من الحياة والآخر، لذلك نجد إن البنية الدلالية  لنصوصها تنطلق من هذا المفهوم، نحو فضاءات اشمل وأوسع تغطي الوجع العراقي المزمن، وهذا ما عبر عنه غولدمان بقوله "إن البنية الدلالية لأي نص أدبي مرتبطة بشكل وثيق مع بنى اكبر وأوسع، تمثل نظرتنا لما حولنا كالبنى الذهنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، التي تنتجها حقبة تاريخية معينة".

في رواية "سواقي القلوب" نجدها اشتغلت على التأسيس ومن ثم التأصيل لما يمكن أن نطلق عليه "العرقنة" أي التجذر بعراقيتها، من خلال التأكيد على هذا المنهج السردي في أكثر من نص لها فيما بعد، وقد أوغلت في نصها هذا على ترسيخ عرقنة النص من العتبة الأولى له، وهو العنوان الذي أضفت عليه حميمية مفرطة باستلهامه من مثل شعبي عراقي "القلوب سواقي"، أي إنها تلتقي وتتواصل بالفطرة، يدفعها الحب والحنين والانتماء، هذه العتبة السردية الهادئة والدافئة، ماهي الا مفتاح ومدخل لنص غلب عليه، الحب والزجل والاشتياق، ونهايات مأساوية وأحداث دراماتيكية، مر بها أبطاله عبر علائق ايجابية نامية، ساهمت الغربة في ربط وشائجها وتعميقها، فكان كل من "السارد الضمني المحوري وصديقه زمزم وعشيقته سراب وصديقته العجوز الخاتون وساري" ما هم إلا أدوات مطواعة للكاتبة لإبراز ثيمة النص، وصاريته، وهي "الغربة"، فقد استطاعت بخبرتها الأدبية  خلق شخصيات تميزت بتفردها، بدءًا من الماضي الذي انطلقت منه، والظروف الصعبة التي مرت بها، وصقلتها، وساهمت في بلورتها وتحديد مساراتها النفسية والسلوكية، فقد وضع هؤلاء الأبطال في إطار سردي محكم، جمعتهم رابطة الغربة كثيمة رئيسة، توحدت عليها رؤاهم ومعاناتهم وهمومهم، لكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا أبطالا بالمعنى السينمائي أو الأسطوري، فقد غلب على إيقاع حركتهم داخل النص، الهدوء، وعدم الاكتراث بالأحداث المحيطة بهم، وتميزوا بنوع من النرجسية السلبية، والتمرد على الواقع، كإفراز طبيعي لتأثير الغربة على صناعة  أبطال  إشكاليين كهؤلاء، فكان البطل السارد، يساريا هرب من العراق نهاية سبعينيات القرن الماضي، بعد انهيار الجبهة التقدمية، ولجأ إلى فرنسا، ليعيش ثورة من الحنين والتشتت والهذيان الفكري، وسراب فتاة يسارية هي الأخرى كانت ضحية لعمليات تعذيب واغتصاب، مورست بحقها من قبل الأجهزة الأمنية لنظام البعث الحاكم آنذاك، كانت تعيش على هاجس إخفاء شخصيتها، كي يتسنى لها نسيان وتجاوز هذه الجزئية الحزينة والمؤلمة من حياتها، لينتهي بها المطاف ميتة بمرض السرطان في إحدى مستشفيات باريس، ساري الشاب العراقي، الذي عانى عقدة انتماء مزدوجة، الأولى شخصية، تمس كينونته ووجوده وصورته التي حاول أن يواجه بها الحياة، كونه "خنثى"، وعاش على أمل أن يواجهها بنصفه الأنثوي لا الذكوري، وعقدة الانتماء الثانية التي كان يعانيها، هي انتماؤه القسري الى وطنه ومجتمعه، الذي أحس ومنذ طفولته بأنه غريب عنهما، بسبب ميله الأنثوي في مجتمع شرقي ملتزم، لم يألف ظواهر اجتماعية كهذه.. هذا الرسم الدقيق للشخصيات جعل من النص بانوراما سردية، تمظهرت فيها كل إرهاصات وإشكاليات الإنسان المعاصر، إنسان ما بعد الحداثة وهي "الانتماء، الهوية، الوطنية، المعتقد...." وهذا ما أشار إليه لوكاش بقوله "إن البطولة ليست للأفعال الخارقة، بل للشخصيات التي تعطي لنفسها التفرد الشخصي المتميز".. كانت "سواقي القلوب" اقرب إلى مجموعة من السير الذاتية، تحكى على لسان حكواتي سارد ضمني، مثله البطل الرئيس للرواية، وأخرى تروى على لسان الأبطال، استخدمت فيها انعام كجه جي تقنية "السرد الممسرح الظاهري" وهي أن تقوم شخصيات الرواية بسرد الأحداث لشخص آخر داخل متن النص، كما فعلت كاشانية خاتون، العجوز الارمنية العراقية، حين قصت جزءا مهما من حياتها وتاريخ العراق الحديث على صديقها الطالب العراقي "زمزم" .

تبدأ الرواية بمشهد السارد مع الخاتون، وهما يصطحبان جثمان "ساري" الفتى الذي حاول أن يتحول إلى فتاة بمساعدة الحكومة العراقية آنذاك، فقضى مقتولا في إحدى حدائق باريس، بعد أن تحول فعلا إلى فتاة، ورفض التعاون مع المخابرات العراقية.. هؤلاء الثلاثة الذين جمعتهم الغربة في باريس، جعلتهم عراقيتهم يقفون على بوابة طريبيل ينتظرون الإذن لدخولهم ارض الوطن، القابع تحت وطأة الدكتاتورية، كل منهم يبحث عن ضالته هنا.. البطل السارد جازف بالعودة من اجل أن يرى أم ساري الذي كانت تربطه معها علاقة حب، قبل أن يهاجر إلى فرنسا، في محاولة تعويضية منه للملمة شتات نفسه، والتقليل من خسائره.. كاشانية خاتون العجوز المسيحية الارمنية، التي تربت في بيت مسلم، في إحدى محلات الموصل القديمة، لتصبح بعدها زوجة لمستشرق فرنسي، عادت إلى العراق مصطحبة رفات زوجها، لتحقق رغبته، والذي تمنى أن يصبح عراقيا ويدفن في تربة العراق، وأما ساري او سارة، فدخوله بهذه الطريقة إلى ارض الوطن هو إشارة إلى انتماء قسري حاول التملص منه والانسلاخ عنه بشتى الطرق، إلا إن عراقيته حتمت عليه أن يوارى في تربته، وتحت سمائه.. "دخلت إلى الوطن ذات ضحى نيساني ساخن، في سيارة أجرة تنقل ثلاثة ركاب، جالسا إلى جوار سائقها، وفي المقعد الخلفي تكومت كاشانية خاتون على نفسها.....ثلاثة أحياء في الداخل وفوق رؤوسهم يقبع على سقف السيارة تابوت..."هذا المدخل السردي المشوق والذي استخدمت فيه الروائية تقنية "الاستباق" أي أن يبدأ النص بمشهد يمثل خاتمته.. يدخلنا في نص مثل مجموعة من الأنساق الحكائية المتداخلة، التي ترتد فيها الأحداث نحو الماضي القريب وتتشابك مع الحاضر وإسقاطاته، عبر تداعيات حرة يمر بها أبطال النص نتيجة تفاعلهم مع الحاضر الآني، استعانت فيه الكاتبة بتقنيات "الاستذكار والاسترجاع  والارتداد" فكان نصها ديناميكيا متفاعلا مع نفسه ومع عنصري الزمان والمكان، تناول بعضا من التاريخ، فقد وفقت أنعام جه جي في تسليط الضوء على جزء من تاريخ العراق السياسي والحضاري والاجتماعي المعاصر، عبر بوابة كاشانية خاتون فكانت أيقونة عراقية محضة، بذكرياتها، ولغتها، وتركيبتها النفسية والاجتماعية، كما فعلت لاحقا في رواية طشاري، حين أشارت إلى العلامات المضيئة في تاريخ العراق الحديث، عبر بوابة الدكتورة وردية.. منطلقة من السرد نحو التاريخ وليس العكس.

تميز هذا النص بقدرة الروائية على السيطرة على أبطالها وإحكام قبضتها عليهم، حيث لم تتح لهم حرية الاختيار، أو المناورة داخل السياق الحكائي للنص، وبالتحديد فيما يخص عراقيتهم وانتمائهم  المادي والوجداني وحنينهم إليه، باستثناء ساري أو سارة، الذي حاول الإفلات من هذه السطوة وتمرد على هذا المنهج الفكري والوجداني، والحيز الذي رسمته لأبطالها ليتحركوا فيه، فعاقبته أنعام كجه جي على انسلاخه المشين هذا، وذلك بموته، وعودته رغم انفه إلى ارض الوطن ليدفن فيها.. هذه السطوة التي مارستها الكاتبة على أبطالها كانت أداة لخدمة محورية النص، وقصديته، ولتأصيل منهج سردي جديد لديها، المشبع بحب العراق والحنين إليه، ورفض الغربة بكل إغراءاتها ومعطياتها.. تميزت لغة النص بكونها لغة ذكية نابعة من عراقيته، متماهية مع المزاج العام لأبطاله وثقافتهم والبيئة التي انطلقوا منها، إضافة إلى كونها لغة سهلة سلسة، اعتمدت المفردة الموحية واللفظة الشعبية في بعض محطاتها، كمنحى سردي يخلق جوا حميميا، من خلال استخدام مفردات تعود الى مراحل تاريخية معينة، لا يعرف مغزاها إلا من عاش إحدى هذه المراحل، أو سمع عنها، وهي وسيلة استخدمتها الكاتبة لحفظ هذا التراث اللغوي الشعبي ومسمياته، وسأذكر بعض الأمثلة على هذا المنحى اللغوي " تابوت ملفوف ببطانية بالية من معامل فتاح باشا بمربعات بنية وزرقا".." هلة بيهة الجمهورية اَاَاَه الشعبية الوطنية اَاَاَه ".

تَعد سواقي القلوب من الروايات اللاحقة، حسب تصنيف جيرار جينت أي إنها كتبت بعد الحدث الرئيس، لكن الزمن الفاصل بينهما غير محدد، لذا فهي تعد موقفا إيديولوجيا من الكاتبة اتجاه ثوابت آمنت بها، وسعت إلى تجسيدها، عبر مجموعة من الأحداث والحكايات والأنساق السردية المحبوكة، كما عبر عن ذلك الناقد محمود أمين بقوله "إيديولوجيا الخطاب الروائي، لا تتمثل في الخطاب الروائي السياسي والاجتماعي فحسب، بل قد تتمظهر بشكل آخر، من خلال قصة حب أو حكاية شعبية أو أسطورة".

عرض مقالات: