عندما يصنف السارد مجموعته بقصص قصيرة جدًا؛ تكون لديه مساحة من الجرأة في تقبل الرأي النقدي حول القصة القصيرة جدًا ومشكلات تعريفها، ومساحات من الثقة فيما يقدمه للمتلقي. وتتعدد التساؤلات عن ماهية القصة القصيرة جدا، فهل هي السهم الذي يصل الى المعنى بدون أية تفصيلات؟ هل هي ايجاز كامل؟ هل يجب أن تتضمن التلغيز. هل هناك ضرورة لترك مفتاح للقارئ ليصل إلى مقصد السارد؟ وهل العنوان ضرورة؟ وتتعدد الإجابات أيضا على كل سؤال.
أنا شخصيًا أتبعُ مفهوم المتلقي والذي يكون أوسع وأشمل قليلًا، فالقارئ لا يعنيه التصنيفات قدر ما يعنيه المحتوى، وحينما يقرأ أنها قصصا قصيرة جدًا، ماذا يتوقع؟ إنه يتوقع متعة تصل إلى القلب سريعا وتعطيه ما يحتاج من القراءة، وتشبع رغبته، وماذا تفعل القصص القصيرة جدا غير ذلك؟ بالإضافة الى بهارات من صنع القاص تتشكل من مهاراته في وضع الفكرة في قطعة "شيكولاتة". وبالنسبة للسارد كريم صبح، فهو يعرف كيف يصل الى قلب غالبية القراء، فهو يكتب للقارئ العام وليس للنقاد، وهذا جزء من نجاح أي مجموعة، ولا يمنع هذا من التجريب خاصة في لغة القصة القصيرة جدا والنهايات الداهشة التي تبهر القارئ الذي ينجح بالتوقع أحيانا في معرفة خيوط النهاية وهذا يعد احتراما لذكاء المتلقي.
في البداية وقفت عند العنوان "فياجرا"، ماذا يريد أن يخبرني العنوان؟ وماذا سيقابلني في الداخل؟ ولماذا الفياجرا؟
العنوان أعادني إلى الغلاف، فهناك رجل مجهول يقف أمام منبه به عين تبادله النظرات، اذاً الزمن يحيلني إلى التكهنات واللون المجافي للأزرق الدال على "فياغرا"، مما يحيرني ويشدني التشويق إلى الداخل.
المجموعة لا تحمل إهداء. إذن السارد دخل في لب الموضوع مباشرة وجذبني إلى نصه الأول "زوج الأم"، وقد تلبستني تلك المشكلة وشدتني إلى جانب الابن تارة ثم إلى جانب الأم، لينتهي أن يفرض عليّ القاص فكرته بأن هناك ما يحتاجه الإنسان غير المال، إنه الاحتياج المعنوي، وترك للقارئ تأويل احتياج الأم.
قصة "إرستقراطي" بين الفلسفة والفانتازيا، برع السارد في تحديد هدفه وتركني كقارئ لإعادة القراءة أكثر من مرة وقد اكتفيت بفهم ما توارد إلى عقلي ووقر في قلبي من سحر عالم الموت والتقاط لب أرستقراطية القبور، فقد خدعني من أوهمني أن الناس سواسية عند الموت.
في قصة البطل الحائر والحامل مهمة البحث عن صاحبة التاء المربوطة في هذا الجو العاصف، وأنا شخصيا في القصص القصيرة جدا مثل كل القراء من هواة محاولة الوصول إلى فكر السارد، أتوقع وأندهش عند ثبوت توقعي، وقد أحزن أحيانا عندما يخيب توقعي، والبطلة في القصة لم تنتظر البطل، فلها شريك وهي الدهشة التي تنسيني خيبة التوقع.
وها أنا قد وصلت إلى القصة صاحبة العتبة الرئيسة للمجموعة "فياجرا"، وهي قصة القهر بإحدى الصور الإجتماعية، فالبطل يفكر في الزواج، مجرد تفكير، والمفارقة أنه وصل الى الستين ويلعن الزواج لجنوح الزوجة للتسلط، من هذا المنطلق يلعب السارد على أرجوحة التمني والالتزام بمجرد انقشاع الشباب والوصول إلى سن الستين. وبرع السارد في صنع المفارقة ولو أني لم أحبذ أن يكون "فياجرا" هو إسم المجموعة، على الرغم من جاذبية العنوان وصنعة التشويق فيه.
قصة "مذكرات"، تلك القصة الممتلئة بمفارقات الموت والغياب والخيانة، تقص علينا العديد من الموضوعات في بضعة كلمات بحبكة قاص ونهاية داهشة، قد تتوقف نهايتها عند الجملة قبل الأخيرة، في جملة "طلاقها في تاريخ قريب"، لكن هناك احتمال السفر واحتمال الغياب واحتمال الخيانة فهي نهاية مفتوحة جديدة.
قصة "لدغة"، قمة الإنسانية تتجسد في فقر الشعوب العربية، تتعدد الأسباب والفقر واحد، وغالبًا في قصص الأديب التعبير عن المجتمع العراقي وصورته نتاج الحروب والتمزقات السياسية، فالحرب تصنع كل شيء ولا يصح أن نخجل من ذكرها بل نحتاج إلى أقراص "الفياغرا" لوصف حال المجتمعات، وهذه القصة بالذات جعلتني أقتنع تماما بعنوان المجموعة "فياجرا"، حتى نتمكن من الحديث عن التمزق في العلاقات الإنسانية نتاج سفور السياسات وفجور التحكمات! هذا وضح تمامًا في قصة "عاهرة"، بل أكد نظرية العهر السياسي، أليس هذا أدعى إلى احتياجنا إلى الفياغرا؟ كذا قصة "بين حلمين"، فالسياسة لا تنادي للبناء بعد كل خراب، ويظل حلم البناء بل الحلم ذاته نجاة.
كنت أظن أنني أفلتّ من بين براثن الموضوعات وجاذبيتها، فإذا المجموعة تشدني الى الأعمق، كلما قرأت قصة انجذبت الى الأخرى.
هناك موضوعات تمردت على القصة القصيرة جدا وخرجت عن نطاقها، ونظرا لذلك التمرد كنت أتمنى عدم التصنيف، فالقصص كلها متقنة وعميقة المغزى ولكنها خرجت عن الـ ق. ق. ج. مثل قصة "سندباد" وقصة "زوج الأم"، ليس لوجود الحوار فيها بالقطع لكن لأن أحداثها ممتدة، لذا كنت أتمنى أن تخرج القصص غير القصيرة جدا لتشكل مجموعة جديدة رائعة.
في قصة "الصفقة" هناك حكمة تقول: على الرؤوس تدور الدوائر وهي لغة إنسانية خالصة لم تخرج عن السياق الذي تهدف إليه المجموعة القيمة.
وفي قصة "الحائط" ينفرد السارد بإشارة الى أن السياسة لا تنفصل عن الحياة، فإن كنا نسير إلى جانب الحائط فالحائط يسير، فلا إنفصال بين السياسة والحياة الاجتماعية مهما حاولنا.
في قصة خفان، عبر السارد بسخرية عالية وتناصٍ من الحكم والأمثال "خفي حنين"، عن الحال الإقتصادي، لتحمل الكثير من القصص تيارًا اقتصاديا معبرًا عن حال الدول العربية، ومن هذه القصص التي يجب أن نقف عندها وهي متوالية لقصص أخرى في السياق نفسه الاقتصادي مثال قصة "صفقة" وقصة "بين حلمين" وهذه المتواليات مثال متوفر في الدول العربية.
وتجرنا الإنسانية الى العمق البشري وتحرير أفعاله من قيود الكبت وعرضها على الورق، فقصة "اللص" صورة من صور القسوة المتجردة من الإنسانية في صورة زوجة الأب التي تدفع بابن زوجها الى السرقة، وكيف لا يتحرر إلا عن طريق بيع عضو من أعضائه، هي صورة لتحليل وتشريح مجتمعي، استخدم القاص فيها مشرط التعرية للمجتمع. على العكس من قصة "شقاء" التي لا تحتاج إلى مشارط بل إن الحدث يعرب عن ذاته في اليُتم الذي أودى إلى عقم اللغة حال الطفل القادم الى الحياة بلا أم.
قصة "فرصتان" نموذج بلاغي ناجح للعب بالأضداد ليؤكد معنى الفرصة التي ضاعت والفرصة المتاحة، وتتجلى الإختيارات من بين السطور بإبداع محقق جلي يدفعنا الى القراءة مرات لنتحقق من الصواب فيما وصلنا إليه، هذه القصة أحجية رائعة.
في قصة "نزيلة" تحدث فانتازيا المجتمع غير المرئي عن نفسه، ألا وهي الحقيقة الصادقة ملء العالم "الموت"، يأخذنا القاص لإهالة الثرى وفراق الأحباب بإشارة إلى حياة برزخية جديدة؛ فماذا يقول لنا؟ هل ما زال الأمل مستمرا؟ هناك فلسفة تتسرب إلينا عبر أبواب الأقاصيص تخبرنا بفكر عميق للحياة والموت، ولم تكن قصة "نزيلة" الوحيدة التي حملت لنا فانتازيا الموت كمشهدية سينمائية بفلسفة جديدة كما في قصة "بين امرأتين" وقصة "سلمى". بالتوغل نجد أن القاص يعود بنا إلى فلسفة الموت في قصة "بين الأرض والسماء".
قصة "نزال" تلك الأقصوصة الموجزة والحدث فيها رحلة بحث عن جواب لسؤال لم نعرفه، ويعود القاص الى المراوغة اللفظية المشوقة.
نعود الى الإثارة في قضية السرقة وقصة "شاعر"، جريمة بل أكثر لأنها نتاج الرذائل والتشوهات المجتمعية المختلفة، فنجد تصارع أحداث بين سرقة ومغافلة وعجز لساني في بضع جمل متلاحقة متقنة الحبكة والدهشة في رسم مكملات المشهد المرئي كذلك الحال في قصة "زوجة" و"عصر الوهم".
لا تخلو المجموعة من السخرية الراقية التي ترفع الغطاء عن السلبيات المجتمعية المنحنية للفت النظر. فقد يمكن تصحيح الاعوجاج في المجتمع الشرقي ككل، هو جلي واضح في قصة "سكرة الحياة"، وقصة "عالمان"، وقصة "ركود"، وقصة "جوع"، وقصة "تعارف" و"ثرثرة فوق الرأس" وغيرها، أما السخرية في قصة "سطر لم يكتمل"، فهي من نوع التلاعب بالألفاظ الذي يجر المتلقي معه ليركب صهوة التشويق فيصل إلى عمق المعنى بسلاسة وتلقائية، وبين السطور تبطين وإسقاطات مجتمعية كالعادة في قصص كريم صبح لكنها ملظومة جميعها في خيط إنساني لا تنسل عنه.
نعود الى اللعب بالكلمات والفوازير في قصة في غاية الإبداع اللفظي وهي قصة "قدران". أما قصة "عذراء"، وقصة "ضربة أخيرة"؛ فهما دعوات لإشراك المتلقي في البحث والتفكير؛ ليجد مفتاحه هو الآخر مختبئا في مكان ما بين السطور.
جاءت العناويين مكملة للقصص ملائمة ومشوقة ومرتبطة بالمتن مثل قصة "مصالحة مع سبق الإصرار"، وقصة "على هامش الورق"، وقصة "سؤال تجريبي"، وقصة "انطفاء"، وقصة "صانع".
التعامل مع الآخر كان حياديا بعيدًا عن الانفعال، بل منظوره من الناحية الإنسانية البحتة خاصة في القصص التي تحمل اسم امرأة كسلمى أو التي بدون اسم كما في قصة "زوجة"، أو بالتلميح مثل قصة "عينة و"نار الخريف" وقصة "صدمة" وغيرها، فهو يقترب من داخل المرأة بجرأة بعيدة عن الحذر؛ لأن المنظور إنساني كما قلنا يلمس المشاعر والقلب والروح، يعذر الزلات أحيانا ولكنه يدينها، كما يدين الأعراف المجتمعية التي أدت إلى هذه الزلات والسقطات، كما أنه تناول العلاقة بين الرجل والمرأة بكل صورها سواء الجذب أو الشد من طرف الرجل أو العكس، ووصف إحساسه بالآخر بصور مجتمعية متفاوتة وظهر هذا في إحدى القصص بعنوان "رجل تحت التدريب"، فهذا النوع من العلاقة من وجهة نظره هو وفي قصص أخرى من وجهة نظرها هي. أما المفاجاة قصة "فياجرا وردية" التي اقنعتني تماما بوردية الغلاف، لم يترك القاص أيا من القضايا النسائية إلا واقتحمها بجرأة، حتى مشكلة التحول في قصة "رجلان وأنثى"، وهي آخر قصة في المجموعة.
تنوع الموضوعات الإجتماعية وطريقة الطرح كالتعرض الى السرقات الأدبية في أكثر من نص مثل قصة "شيطانة الشعر"، كذا الأحلام والأمنيات فالقاص لم ينسها مثل قصة "حلم الأنابيب" و"أمنيات الموتى".
التأثير المكاني وظهور البيئة بأعرافها ومقوماتها وإنسانيتها بناء أثيري للمجموعة، كما أن الإغراق في المحلية رفع شأنها وجودتها وصلاحيتها لبيئات عربية متشابهة وأزمنة متقاربة الأحداث، إنها الكرة الأرضية في قصص "صبح" التي يؤدي التواصل بين أقطابها الشمالية والجنوبية والغربية والشرقية تماسا عجيبا، فأشعر أن العراق في الحي المجاور للذي أسكنه بمصر، وهكذا هو شعور كل من سيقرأ المجموعة، ألا وهو التماهي مع الأحداث والتحليق فوق كل شبر من أرض العراق.
ــــــــــــــــــــــ
* ناقدة من مصر