العتبات والمفارقة /

شغلت النصوص العراقية هموم وطروحات الأزمنة التي زاد خلالها الصراع ، واحتدمت المواجهات ، وزُيّف التاريخ ، واضمحلت الأواصر ، مما خلق نوعاً من الفوضى والانتكاسة في مسيرة البلد .إزاء ذلك واجه النص السردي بجرأة لمعالجة هذه الظواهر . ولعل الراحل( أبوكَاطع) في رباعيته أحسن كثيراً في معالجة هذه الظواهر بأسلوبه الشعبي والبسيط القريب من معارف الإنسان ووعيه الفطري ، مستخدماً بلاغة اللهجة الشعبية وعمقها الفئوي والطبقي . إن الأسلوب الساخر يتطلب الموهبة ، ويستلزم البديهة في تقصّي المتضادات دون الترفع عن الوعي العام . ولنا في رواية الأديب العراقي ( فرات المحسن) الموسومة ( كارل ماركس في العراق) المنتمية إلى هذا النوع من الأدب ، الذي تكمن فيه قوة البديهة ، وحرفة الكتابة الروائية . فمنذ العتبة الأولى (العنوان) تتأسس المفارقة ضمن اتجاهين ؛ الأول: كون (ماركس) قد توفي ،وأمر استحضار وجوده يعني استحضار فكره عبر فحصه للواقع المضطرب والمدمر ما بعد الاحتلال . فلعودة هنا فيها نوع من المفارقة والفانتازيا . والثاني: في حضوره إلى العراق ، يعني اختياره لرحلة نحو  جزء من ما شغل تفكيره ، ضمن معالجاته الاقتصادية والطبقية ، خصوصاً وجود الطبقة العاملة ،تظافراً مع ( أنجلز) في طروحاته. ومعنى وجوده في جزء من العالم يعني امتحان نظريته . وحصراً وجوده في العراق كان من عنديات المؤلف من أجل الاتكاء على وجوده في فضح الواقع ، وتقديم نقد رصين لحركته واضطرابه عبر لغة حوارية اتخذت من اللهجة الشعبية وسيلة لتبرير وتصعيد المعالجة . كما وأن العتبة الثانية (الغلاف)فقد اعتمد على عكس صورة رأس (ماركس) الشهيرة ثم ألبسه زياً عراقياً هو( اليشماغ) . إذ تبدو الصورة صادمة ، توحي بالكثير للذي يعرف الشخصية أو لا يعرفها .أما العتبة الثالثة ، فاحتوت مقطعاً من رؤى ( ماركس) في الصراع الطبقي ، والبناء الاقتصادي ،تلخيصاً لحصيلة تجواله في البلد .

اللغة الروائية وبلاغة اللهجة الشعبية/

لا يخلف اثنان على أن للهجة بلاغتها هي( الحسجة) .وهذه البلاغة تنطلق من وعي فطري ، مصاغ بوعي طبقي ومعرفي شفاهي . هذه المكونات صاغت وجود وفعالية نماذجه الذين مروا في مسيرة ماركس وهو يتنقل في العراق وسّفره وسفره من بغداد إلى النجف ، ثم مدينة الناصرية وما سمعوا من أحداث دمار خاصة في مدينة البصرة. وصولاً إلى الاختطاف . كانت المخاطبات خلال الحوارات ، تنم عن الرؤى النظرية القارّة عند(ماركس) والوعي الفطري والأيديولوجي الناقص، سواء عند من التقاهم من بسطاء الناس ، أو من المنتمين سياسياً ، وفيه نقد لاذع. إذ كانت اللهجة الشعبية التي صيغت بها الحوارات ،تميّزت بالإغراق في شعبيتها ، حد التوفر على تراكيب ذات نمط دوني مؤثر في وصف الأشياء ،وإفراز نظرة الآخرين ، سوء لـ (ماركس) أو لواقع الحال العراقي . مما خلق لدى النموذج نوعاً من الإحباط بين النظرية والتطبيق . لكن( ماركس) كان ميالاً إلى إصراره على صحة نظريته ، معزياً كل هذا إلى التخلف وهيمنة الدين على الخطاب السياسي . لقد ساعدت اللهجة الشعبية(العامية) على كشف تخلف الأفراد ، ومنطق الخلل لدى البعض الذي اتخذوا من السرقة والاحتيال والخطف ، وتكالبهم على الجريمة من أجل المال ، عزاه( ماركس) إلى أسلوب التخريب المتعمد . لاسيّما بعد أن تعلم بعض من أسرار هذه اللهجة وما تعنيه من مقاصد ذللت له الطريق لفهم الشخصية العراقية .

المعالجة الروائية/

كشفت لنا الرواية عن قدرة الكاتب على مداورة محتويات النص ، معتمداً على العلة والمعلول في التوفر على مفردات روائية أسهمت في ترصين البناء العام للنص ،وخلق موازنة في البناء . بمعنى لم تحدث مجريات الواقع الفانتازي شرخاً في السرد مثلاً ، ولا في تماسك المفردات (الفصول) ، بل أنها تظافرت ضمن حقل روائي مدروس ، اتخذ من أسلوب التنامي الأفقي مجالاً لتنامي الحدث المركزي ، وهو وجود (ماركس) في العراق . فحاول أن يرتب لوجوده مخرجات منها ( الإيهام) الذي تقع فيه الشخصية المزدوجة . الشخصيات التي خلقت منها أساليب السجن والتعذيب المفرط إلى إحداث خلل وشطط في المنظومة الدماغية ، مما خلق نوعاً من الوقوع في الإيهام ، فـ( ماركس) حين استقر في بغداد ، وفي مقهى( أبو داوود) حصراً اقترن أسمه بشخصية أخرى كشف عنها أحدهم . وهي شخصية( عبد القادر ملّه عطا آل مغامس) وهو حسب(أبو رجب):

{ ــ جان واحد من أهم أساتذة كلية العلوم السياسية في جامعة الكوفة ومسؤول عن التقييم الجامعي والبحوث ـ}

وفي هذا مفارقة أخرى .

وتتوالى صور ربط شخصية( ماركس ) مع شخصيات أخرى تعرضت لنفس الأساليب ، مما ولّد مقبولية وتعاطف معه ،بينما سفّه (ماركس) هذا الادعاء في ذاته ،مؤكداً على أنه شخصية حقيقية آتية من لندن إلى العراق . وهذا ما يؤكد طروحاته النظرية في تحليل الواقع .وهذه المفارقات خلقت تجسيراً بين الشخصية ومدارها ، وبين وجودها الحيوي الفكري. الأمر الذي فسح المجال لغرض الساهمة خلال مجموعة من التوطئات في الحدث ، والتي عمقت التناقض العام في التركيبة الطبقية والاجتماعية ، مما وسّع دائرة الخسارات والاضطرابات التي أنتج خراباً عاماً وشاملاً ، زحف على كل ما من شأنه بناء الحياة من جديد . إن الرواية سِفر مشوّق وناقد بأسلوب موضوعي واعي لكل ما من شأنه  شكل مساهمة في تخريب الحياة العراقية.  والأسلوب الفانتازي ، وتوظيف اللهجة الشعبية البليغة ،ساهما في تصعيد وتيرة الحدث الروائي..

           ______________________________________

  • كارل ماركس في العراق / رواية فرات المحسن /دار الجواهري ــ

                                   بغداد 2017

 

عرض مقالات: