من الشخصيات الثقافية النادرة في طيبتها وروحها العذبة التي مرت في تاريخ العراق وخاصة في فترة السبعينيات وحتى خروجه من العراق متأخراً بعد رحلة مريرة من الملاحقات والاعتقالات والاختفاء عن الأنظار مع مجموعة من الأدباء والفنانين اليساريين الذين كانوا يحلمون بحياة حرة وكريمة، لكن سياسات القمع والتعسف آنذاك لم تقضِ على أحلامهم فحسب إنما قضت على حياة الكثيرين منهم! أنه الكاتب والفنان الراحل صباح عثمان الرشيد، المولود في مدينة البصرة عام 1957 والذي عرفته عندما جاء ذات ليلة من عام 1979 الى بيتنا برفقة أخي الكبير "ستار" الذي كان صديقا له، وكان الجوع قد أخذ مأخذه منهما وكانت ثيابهما ممزقة من جراء اشتباكهما مع مفرزة الأمن العامة التي لاحقتهما في شارع السعدون وحاولت اعتقالهما لكنهما تمكنا من الإفلات من تلك المفرزة اللعينة، وبينما كنت أجهز لهما فراش النوم وبعض الطعام كانا يتحدثان عن اصدقاء آخرين تم الإمساك بهم!
بعد مرور سنوات طويلة اختفت أخبار صباح عنا حتى ألتقيته في احدى سنوات الحرب العراقية الايرانية الأخيرة في منطقة "قره تبه" القريبة من كلار. كان معنا الصديق الشاعر حميد قاسم، كنا جنوداً نسهر يومياً حتى الفجر بعيدا عن أنظار الرقيب، وكان صباح يغرد بصوته الشجي الجميل في أعالى الحب، فوق الجبل وفوق الحنين وفوق ألم الفراق، كان يغني أغنيتة التي يحفظها اغلب اصدقائه "أريدك".
صباح عثمان الرشيد هو مهندس كهرباء وخبير ومبدع في الكثير من المجالات الفنية والثقافية، يعرف كل شيء ويذلل كل الصعاب أمامه. كان يقضي اغلب أوقاته مع صديقه الشاعر كزار حنتوش ويشرع في غنائه الشجي، وبعد اشتداد الحصار على العراق غادر الى عمّان ولم يلبث كثيراً حتى غادرها الى دمشق.
لقائي به حصل في "السيدة زينب" عن طريق الصدفة وهو ينتظر السفر الى الدانمارك، لم يتغير قلب صباح عثمان الطيب رغم الحروب والحصار والمداهمات والتعسف وصعوبة حياته المحفوفة دائما بالمخاطر ، وحين تجمعه جلسة مع الكبير مظفر النواب يتعالى حنينه الى الوطن عبر الريل وحمد والنواب.
في عام 2002 غادر صباح دمشق الى الدانمارك وأصبح قريبا مني ومن أصدقاء آخرين فكان يزورني في أوسلو وأنا أزوره في مدينته القريبة من مدينة صديقنا الشاعر وسام هاشم، نلتقي ونستذكر أيام المطاردات والحروب وويلاتها لكنه لم يشتكِ للآخرين فكان عزيز النفس وهادئ ومسامح في طباعه.
كان الكاتب صباح عثمان يختبئ في بغداد أحيانا في بيتنا وأحيانا يذهب الى أهله في البصرة وسرعان ما يهرب مرة أخرى فيذهب الى السليمانية، فوالده من اهالي السليمانية كان عسكريا في جنوبي العراق وأمه جنوبية لكنه كان عراقياً عاشقا لتراب العراق، طيبته وروحه العذبة دائماً تحجز مكانها المرموق بين الأصدقاء وكل الذين عرفوه عن قرب.
صباح كتلة من الحنين وروح ملائكية تمشي على الأرض، كرمه باذخ لا يشبهه كرم لكنه يشبه مائدة عاشوراء حين يفرشها فقراء العراق من الموصل والبصرة وكركوك وبغداد الى كربلاء.
فجعنا برحيله المفاجئ في صيف عام 2012 بمنفاه الدانماركي وسط ذهول اصدقائه ومعارفه. نام في بيت صديقه الذي قضى معه منتصف الليل في الحديث المليء بالشوق والحنين للعراق والاصدقاء لكنه لم يصحُ، توقف قلبه عن الحب والحنين والحياة.
هكذا إذاً يا صباح تركت ضحكتك العريضة ترنو
وإبتسامتك التي تضيء دروب المنفى
سأفترض الليلة أنّ طيفك الذي زارني في المنام
كان حزيناً في غربته
بينما ليلتي كانت مزدحمة بالمقابر
تذكَّرت أيَّامَ الحرب والموت على الجبهات
حين تأتي الشظايا مسرعة وهي تقّطع أوصال الجنود
الذاهبين إلى الموت باسم البلاد
كنت أرى طيفك بين الموتى وهو يغني:"أريدك،
الستاير لونها فراك وتصاويرك برمشي".

عرض مقالات: