باتت الجغرافيا من اهم قلاع المعرفة، كما تقول الانثروبولويجا،لأنها تمتلك ما يجعل أي قرار قائمًا في واقع معاش. ومن هذه القرارات التي قسمت مدن العراق إلى طوائف وقبائل ومناطق، ما اصطلح عليه بـ "الصبات" بديلا عن السيطرات. أن مهمة الصبات هي اقامة نوع من الثقافة المحاصصاتية التي حملت في أبعادها تقسيمًا لجغرافية المدن العراقية، وبالتالي لسكان المدن العراقية.
ويتحدث مهندسو ما بعد الحداثة عن أن حدود البلدان ستمر في القرن الواحد والعشرين داخل المدن، وهذا ما حدث للمدن العراقية التي لم تكتف بعزل منطقة عن أخرى. بل هوية منطقة عن هوية منطقة أخرى، وإذا كان مهندسو مابعد الحداثة يتحدثون عن دور الأسواق والاتصالات والعولمة والمراكز المتعددة، في صنع مدن عديدة ضمن مدينة كبيرة، فاننا نجد الصورة المشوهة للعزل بين سكان المدن العراقية متحققة دون هذه العولمة.
ومن يستقرئ الحدود المصطنعة التي قسمت العراقيين إلى فئات وطوائف، يجد ثمة عوامل خارجية وأخرى داخلية فرضت هذا التقسيم. فعندما تفصل منطقة يسكنها الشيعة عن منطقة أخرى يسكنها السّنة، وكلاهما معًا عن منطقة ثالثة يسكنها المسيحيون، تشعر ولو من بعيد أن دولًا معينة قد رسمت خارطة بعض مدننا، ومنها دول الاحتلال، وفرضت هذا التقسيم الطائفي بقوة السلاح. وبدون ان نسمي تلك البلدان، نجد أن حدود العراق الداخلية قد رسمت طريقة أخرى للعيش، مما مهد لداعش أن يستغل هذا التقسيم الجغرافي وينشئ دولته اللا إسلامية في مناطق وجدت نفسها معزولة بعد عام 2003.
وهذا يعني أن هذه السواترالتي تمنع السير والرؤية، اسست ثقافة العزل وفرزت صورا سياسية وثقافية ودينية. وبالتأكيد سيكون الأبناء ممن عايشوا هذه التقسيمات، وما رافقها من عداء وحراب، هم الضحية لأن هذه المظاهر ستيقى في ذاكرتهم مدى الحياة، شأنها شأن أي فعل جماعي مورس ضد الناس. وإذا ما تغلغلنا بعيدًا في ظاهرة العزل بين أبناء الشعب الواحد، نجدها انتجت المحاصصة وأغنتها بثقافة البعض ممن يستغل الناس في موارد عيشهم ورزقهم، ومنها المدارس التي تبنت ظروف العزل بين الطوائف، كما مهدت للتغطية على الفاسدين وحمايتهم والتغاضي عنهم. فبعض الشوارع لا يسير فيها إلا من أنتمى للمنطقة المعزولة، و الكهرباء لا توزع إلا لمن هو في جهة صاحب المولدة، وهكذا بدأ الشق في الثوب العراقي يتسع .
لن تكون هذه الظاهرة بمعزل عن الفكر العام للناس. وما اشيع هذه الأيام من فتح المنطقة الخضراء امام المركبات والناس، لهو ظاهرة يجب ان تدرس اجتماعيًا، لأن المنطقة الخضراء التي يتآلف فيها كل السياسيين ومن كل الجهات والأديان والأطراف، تمثل الرأس للعراق، كما تعني بؤرة التآلف بين المكونات، ونجد ظاهرة المنطقة الخضراء قد عُممت على كل المحافظات، في ما يسمى بمجالس المحافظات، بينما اطراف الجسد العراقي، وهي المناطق التي تتألف منها المدن، مشلولة، وموزعة، ومرتبكة السير والحركة.
حسنا، سنجد بعض الحرية في فتح أجزاء من المنطقة الخضراء ولاشك، وهذا يعني ان ثمة فرصة جيدة لأطراف الجسم العراقي بأن تتحرك وتنشط وتعمل، الأمر الذي يقلل من المشاحنات والهويات الفرعية والحسابات الطائفية والمحاصصاتية. وياحبذا لو فتحت كل الطرق الأخرى في بغداد والمدن الاخرى، وازيحت العشوائيات والسقائف التي أغلقت الطرق الفرعية في مراكز السكن، لأمكننا القول ان الجغرافيا العراقية أصبحت حسب رأي ليفي شتراوس من أهم قلاع المعرفة، اجتماعيا وثقافيا.

 

عرض مقالات: