ما يسرده الشاعر نصيف الناصري في كتابه الجديد حول خدمته العسكرية في شمال العراق، أعادني إلى مَن أكلت أجمل سنوات عمري حين كنت عسكريا: أعني الجبال التالية: كوميتان/ شهيدان/ نورا/ كنو/ بلغة/ قنديل.
استوقفتني أسئلة الشاعر البسيطة/ الضروية، وهي أسئلة تفكر فينا ونفكر فيها حين تتراكم خبرتنا وتتعمق في المعترك الثقافي: يتساءل نصيف "ما الذي يجبر الشاعر الشاب الجديد على رهن مشروعه الشعري الذي ينبغي أن يُكرّس حياته كلها مِن أجله، على التلطخ بمشروعات وثقافة السلطة الطائفية"؟ ثم يجيب بأسئلة شتى:"أهي جنّة المال. الوظيفة، الفهلوة، الحصول على مغنم؟".
(*)
يحدثنا عن غباء الرقيب مع "أناشيد مالدورو" للشاعر الغرائبي العظيم الكونت فيدور دوكاس، الذي عرفناه باسم "لوتريامون" الكتاب صار بين يديّ الرقيب العراقي في 1982 وبفضل الرقيب "مُنَع الكتاب من النزول إلى المكتبات بحجة أن لوتريامون يتغزل بالقملة والرياضيات"، وهنا تستعيد ذاكرتي نسخة ً مخففة من الرقيب، في 1993، كنت في زيارتي الأسبوعية إلى معهد المعلمين في البصرة، أتوجه مباشرة إلى صديق عمري ومستشاري الثقافي وأستاذي الفذ الشاعر مجيد الموسوي "طيّب الله ثراه" كالعادة أراه في مكتبة المعهد، الشمس تلقي بذهبها على خزانات الكتب: هدوء يخالطه صمت ُ زكي الرائحة، اسلمه كتبا ويسلمني كتبا، اسلمه نصوصي الجديدة، يسلمني قصائده الجديدة، أعيدها إليه ليقرأها بصوته العذب.
ذلك الضحى كان بين يديه كتاب لوتريامون، استعاره من استاذنا الشاعر كاظم الحجاج، الذي استعاره بدوره من الشاعر حسين الحسيني، منحني الموسوي يومين لقراءة لوتريامون، حتى يعيد الكتاب إلى الشاعر كاظم الحجاج.. بعد يومين اعدت ُ أناشيد مالدورو، تأملني الموسوي، تأملته وخاطبته بصوت منكسر: هذا الكتاب الرائع تأخر عني أكثر من ربع قرن.. تساءل الموسوي وهو يقرب وجهه نحوي: قصدك؟ أجبته بحسرة: ماكو شي.. ومن أجل أن يمحو أساي، قال لي سأضحكك:"أحدهم تصفح الكتاب، واخذه ليقرأه هنا،
بعد دقائق أعاد الكتاب، وهو يقول لأذهب وأكمل أطروحتي...."! صاحب الأطروحة الآن دكتور في إحدى الجامعات العربية... يا لبهجتي في آب 2016 وأنا التقط كتابا للمعلم الأكبر غاستون باشالار، عنوانه "لوتريامون" ترجمة حسين عجة، وهنا ألتقط جملة، جملة واحدة من باشالار "وكيف لا نُصدم، عند قراءتنا أناشيد مالدورور...".
(*)
من جانب آخر كان الشاعر نصيف الناصري، من المحظوظين فقد توفرت له مساحات من حرية النشر وحرية الانعتاق من الجبروت مقارنة بنا نحن الذين احتملنا كل شيء في الداخل واكتفينا بالأقل من القليل. وبشهادته هو:"بعد مغادرتي العراق في 14/12/ 1994 بمساعدة كريمة من أمل الجبوري.. وبشهادة نصيّف نفسه "عام 1993 بعد أن عادت من اتحاد أدباء الأردن، جلبت لي دعوة من اتحاد الأدباء في الأردن حتى يتسنى لي مغادرة العراق من دون أن أدفع مبلغ الضريبة الكبير التي لو أبيع أمي وأبي ومنزلهما لا يكفي لسفري الى الأردن..". في تلك السنوات التي يتحدث عنها نصيف، كنا نحن الأدباء البصريين المجايلين للشاعر نصيف لا نذهب إلى بغداد إلا بشق الأنفس وإذا ذهبنا لا نمكث أكثر من ليلتين في أردأ الفنادق، ومتعة بعضنا الكبرى، في مهرجان المربد الشعري فالسفر والمبيت ووجبة الصباح مجانا.. لا يستطيع القارئ إلاّ أن يثمّن الموقف النبيل من الشاعرة.
(*)
والكلام نوجهه إلى الشاعر نصيّف الناصري: عندما رفض مدير دائرة التأليف والنشر في دائرة الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة والاعلام، طبع مجموعتك الشعرية "جهشات"، استطعت بمجهودك الشخصي، أن تطبع 50 نسخة، واستطعت أن توصلها الى الداخل والخارج، حيث نشر لك الشاعر والكاتب سليم بركات 7 قصائد في مجلة الكرمل عدد 18/ 1986 وشملك الناقد حاتم الصكر برعايته النقدية، وشاركت في مهرجان جرش، وعرفك الصكر إلى الشاعر والروائي عباس بيضون.. وهناك من وقف معك من الكبار منهم عبد الوهاب البياتي.. لكننا في البصرة كنا نكتب ونخزن أعمالنا الشعرية والنقدية والسردية، وما ننشره، آنذاك نحن بقية أخوان الصفا وأصحاب صاحب الزنج علي بن محمد، كان لا يمثل إلاّ ذرة من المخزون، وكنا ننشره في الصحف المحلية، ومجلة الأقلام والأديب المعاصر بخطوات متزنة، خوفا من الوقوع في شراك الرقيب. ونحن نعلم جيدا وبشهادة المبدعة آندرية شديد "لا يمنحنا الشعر الشهرة ولا الجاه ولا السلطان، لكنه معلق بين أهدابنا ويدلنا على تلمس الفجر" في تلك السنوات كانت مجموعة من قصاصي البصرة يصدرون على نفقتهم الخاصة من 1991- إلى 2000 كراسا قصصيا "البصرة في آواخر القرن العشرين".
(*)
يلتقط نصيف، المقطع الخامس من قصيدة "عذاب الحلاج":
في سنوات العقم والمجاعة
باركني
عانقني
كلّمني
ومدّ لي ذراعه
ثم يعلق نصيف بطرافة قائلا "طبعا بعد المباركة والعناق والكلام لازم يمدّ له ذراعه، هذا الشعر لا يعني بالاشارة ويعني بالتقرير". في هذا الصدد أرى أن هذا المقطع مشروط بالتقفية، فقد انتهى السطر الأول بكلمة: المجاعة، فيجب أن تكون الكلمة الأخيرة من السطر: ذارعه.. أو قناعه، أو أشاعة.. أو اذاعة وبهذا الصدد، قدّم الشاعر والناقد فوزي كريم دراسة فريدة ً عن تجربة البياتي والسياب وأدونيس في كتابه القيّم "ثياب الأمبراطور".
(*)
يؤكد الشاعر نصيف حرصه على حياة الشاعر من الإدمان، من خلال تجربته معه وكيفية معالجته من الكحول في السويد، ثم يتساءل "هل نحتاج الآن الى ثقافة جديدة نتخلص عبرها من الإدمان الذي يدمر حياة الكاتب والشاعر والفنان؟.. يواصل الشاعر نصيف انتاجه أسئلة هي حقا ضرورية، فهو من وجهة نظره، يفند الإشاعات شعرية كانت أو أيدلوجية، وكذلك يفنّد مقولة بودلير حين يعرّف الشعر أنه "الطفولة المستعادة قسرا" وتفنيده ضمن قوسه حرية وعيه كشاعر حداثي، ثم يطرح السؤال الحق "ما العمل الآن من أجل ترك الشعر يحلق بعيدا عن الأقفاص التي يحاول البعض حشره فيها". ثم ينتقل مؤكد "العشق في الزمان النفسي طاقة مبطنة والسهر تحت ظلالها يمدّنا بالقوة الدائمة" والسؤال هنا ألا تدخل الطفولة والصبا والشباب ضمن الزمن النفسي للشخص؟ ثم يقترح نصيف الوصفة التالية "للتسلط على لحظاتنا الخائبة في العيش. ينبغي للإنسان أن يقذف نفسه في البركان". وأين يقع هذا البركان الآن في المنافي القديمة حيث الاستقرار والضمان الاجتماعي، أما المنافي الجديدة حيث العبور بزوراق مطاطية والغرق والهلاك والذل وقسوة المهربين؟ وها نحن في بصرة الانتفاضة في أيلول 2018، اقتحم أولادنا البركان واستشهدوا وواجهوا رصاصات أخوتهم بصدور عارية في الاغلب..أو بما صنعته أياديهم من ذخيرة بدائية.
(*)
يلتقط نصيف مقولة ً من كتاب سارتر "الوجود والعدم" والمقولة هي "يكون وحيدا في العالم مع المحبوب كي يحتفظ الحب بطابعه كمحور اشارة مطلق"، في لحظتنا العراقية الدموية هذه، ما بين القوسين لا نكترث له لأنه غير موجّه لنا، نحن آباء المخبوزين بالهراوات وبالقنابل المسيلة للدموع.. نحن آباء الجرحي وأخوال الجرحى وأعمامهم. نحن مع ما قاله أبو العلاء المعري:
"وبالعراق وميض ٌ يستهل دما.. وراعدٌ بلقاء الشر يرتجز".
(*)
الشاعر نصيف يسأل ويجيب:"هل تغيرت نظرتنا نحن العرب الى فهم طبيعة الشعر وجوهره منذ عصر المعلقات حتى الآن؟". يرى نصيف أن المتغير الشعري ضئيل وبطيء الحركة، فقد ارتبطت القصيدة بقوى التحرر، وهذا قدر المثقف العراقي والعربي، يتنامى وعيه الشعري بتوقيت ما يجري في مجتمعه، فهل يصغي فقط لما يقوله الشاعر العظيم بول فاليري "التفكير في القصيدة يقتلها" أوما يوصينا به مالارميه "القصيدة تصنعها الكلمات وليس الأفكار"، معك أنا أيها الشاعر نصيف.. معك في القصيدة التي تعتني بالصورة والمجاز والانزياح والمفارقة والغرابة... معك يا نصيف فيما تقول ولكن أين الناقد الذي يدافع عن هذا التيار الشعري؟ وأين المجلة التي تروج له؟ وإذا توفرت هذه المجلة ستنشر لمن وتحذف من؟ بقناعة تامة علينا أن نؤثل لبصمة جديدة ومتنوعة لهذا القطع المعرفي الشعري، ولتكن المواقع الثقافية الجادة هي حارس الفنار..