لو لم يكن محدثي صديقا قديما لقلت أنه يهذي، لكني فوجئت بقصته وهو يحدثني بعد أن شاهد تقريرا تلفزيونيا يتحدث عن "مؤسسة السجناء السياسيين"، قال:"أنا المؤسس الأول لما يسمى اليوم "هيئة السجناء السياسيين" واضيف اليها مؤسسة الشهداء. قلت: كيف يا صديقي؟ رد بحماسة على سؤالي، ربما لأنه استهجن طريقتي في طرح السؤال. قال:"في صباح يوم 20/4/2003 سمعنا أن دائرة الامن الواقعة في البلديات قد تصاعد منها دخان لم يتوقف. اختلط علينا الامر. هل ان الدخان بفعل قصف الامريكان للمكان؟ ام ان المكان احترق بفعل من اقتحم الدائرة التي كانت عصية على الجميع؟
كنت أمضي نهاراتي أمام محل صغير يعود لأحد اصدقائي، نضع كرسيين امام بوابة المحل المخصص لاعمال بيع العقارات، وبسبب الكساد كنا نمضي اغلب نهاراتنا بلعب الطاولي وسماع اذاعات العالم وهي تتحدث عنا وعن حركة السلب والنهب وإختفاء الدولة الحديدية.
وقف رجل متعب قربنا، كان يحمل سجلات كبيرة، سأل بأنكسار: هل تشتري؟ وحينما طلبت منه تفحص السجلات رفض! قال: أنا أبيع هكذا دون أن ترى! قلت حسنا اشتري ولكن قل من اي دائرة اخرجت هذه السجلات؟ قال: الامن العامة!
حالما قالها وافقت ان اشتري بضاعة كهذه دون ان اعرف ما الذي اشتريه قال:"الدفتر بخمسة الاف". بعد مساومات نجح صديقي بائع العقارات بشراء السجلات التي كان عددها أربع سجلات بخمسة الاف.
تركت لعبة الطاولي وبدأت اقلب ما أسميته "كنزا" وصبرت على كلمات السخرية التي كان يطلقها صديقي على الصفقة!
صفحات السجل الاول كانت متشابهة تتحدث عن تقارير المراقبة واسماء كثيرة موضوع تحتها عبارة "المراقبة مستمرة ... وسنزودكم بالتفاصيل" عبارات من هذا القبيل... "اسماء من لم يحكم عليهم حتى الان واسماء من حكم عليهم ونوع الحكم". شدني الامر كثيرا وقررت أن أبقي السجلات في محل صديقي خوفا من أن يراني أحد معارفي ويتصور اني سرقت هذه السجلات بنفسي.
في اليوم التالي جلبت من البيت دفترا متوسط الحجم وبدأت ألخص قدر ما استطيع ما موجود في السجلات. الاسم وتاريخ الاعتقال والحكم والعنوان ومعلومات اخرى عن كل اسم وخرجت بحصيلة كبيرة.
وضعت يافطة امام المحل بعد محاولات شاقة في اقناع صديقي كتبت فيها "مستعدون لشراء سجلات دائرة الامن العامة والمخابرات لغرض انشاء فهرست باسماء ضحايا النظام".
انهالت على المكتب الكثير من السجلات التي تكدست في المحل مما اضطرني الى نقلها الى مبنى المكتبة المركزية في شارع الداخل القريبة من محطة الوقود وبدأت مع مجموعة من الاصدقاء الذين تطوعوا بارشفة السجلات.
بدأ خبر القوائم التي كنا نعلقها ينتشر في المدينة سريعا، وبدأت قوافل النساء والرجال تتوافد علينا للاستعلام عن مصائر ابناء او ازواج او اخوة. وضعنا يافطة تعريفية بنا تشير الى اننا مؤسسة خيرية تعنى بالسجناء والشهداء. وسرعان ما تطوع كثير من الشباب المتحمس لأرشفة السجلات التي كنا نعود اليها بناء على طلب أم تصر على أن ابنها في سجلات الاحياء وليس كما قلنا لها في سجلات المعدومين.. ربما كنا نطمئنها بأن الاسم الوارد هو اسم مشابه لاسم ابنها، وإن ابنها حي وسيعود اليها قريبا، في حين كنا متأكدين انه هو.
بعد أن ازداد عدد المتطوعين اكتفيت بزيارة المكتبة بين فترة واخرى، وكنت أرى تدفق الناس وحسن تبويب الاسماء حتى تدخلت احدى المؤسسات الخيرية وتبنت عمل المؤسسة التي كنت أنا أول من استطاع أن يؤرشف لبنتها الاولى.
شددت على يد صديقي وقلت له أنا اصدقك وموقن أنك قد قدمت اكبر خدمة لمن يستحق أن تقدم اليه الخدمة سواء سجناء أو شهداء لاحزاب مختلفة وانك مؤسس هذه الهيئة ذائعة الصيت والتي افردت لها الدولة فيما بعد ميزانيات هائلة.

عرض مقالات: