آخر صعاليك بغداد الذين تمردوا على الواقع المرير أيام حرب السنوات الثمانية وما بعدها واتخذ من ساحة الميدان وأرصفتها ملاذاً، وكان يرافقه الكتاب حين يدخل مقهى حسن عجمي ومن ثم يحاول بيعه ويخرج مسرعاً الى حانة بائسة مقرفة ليلتقي بأصدقائه من الصعاليك الذين يرزحون تحت ظروف قاسية، وبتخطيط خبيث من قبل أجهزة أمن النظام لا يخلو من التآمر على بعض المبدعين وأصحاب العقول النيرة التي كانت تعبّر عن سخطها جراء سياسات نظام القمع آنذاك، انه الشاعر الثمانيني صباح العزاوي المولود في مدينة بعقوبة عام 1959 والذي تعرض للإصابة بساقه اليمنى في بداية الحرب العراقية الإيرانية وعلى أثر تلك الإصابة أصبح معاقاً دون عناية! ولأنه شاعر حالم بالحرية والعدالة والبناء والازدهار كان يرى الخراب الذي حلّ بالبلاد فأصبح صوته عالياً وهو يشتم النظام ورموزه باستمرار! وقد تم تحويله الى مستشفى الامراض العقلية بصفته مجنوناً وكان عليه أن يبقى هناك حتى موته لكن سقوط النظام عام 2003 أخرجه من المشفى ليعود الى حياة الصعلكة مرة أخرى. استبشر الشاعر بسقوط النظام ومجيء "الديمقراطية" لكنها أهملته هي الأخرى وتركته للشوارع وأرصفتها الخاوية حتى مات عام 2009 بظروف غامضة ومجهولة بعد أن أشبعته سنوات الثمانينات والتسعينيات مرارات سجون الأمن العامة والتشرد على أرصفة ساحة الميدان وأزقة الحيدر خانة الضيقة والمتهرئة من عفونتها وفي المقاهي العتيقة والحانات الوسخة المطلة على موقف حافلات ساحة الميدان التي كتب عنها يقول: "في جنوب الميدان وبسجارتين فقط بعت كتاب الحرب وسرت مع الموتى!". كان الشاعر صباح العزاوي قارئا يجيد هضم واستيعاب الكتب الصعبة على العقول وعندما يكتب القصيدة تصبح ملكاً لأصدقائه الذين عادة ما ينشرون بعض قصائده التي يهملها او يتركها عند صديق.
ففي احد نصوص الشاعر الراحل يتوج نفسه بالمجد بعد ان أصبح يكمّل الأصدقاء في شوارع الفراغ كما يسمي شوارع وأرصفة ساحة الميدان التي تمكن صباح العزاوي من تخليدها من خلال بعض النصوص التي كتبها عن الساحة وعن مشرديها. هو ينشر الطمأنينة في وجوه النساء المعذبات ويعبّر عن ذاته وهو العاشق والابن المشرد والمشتت بفكرة اسمها بغداد! يا لبغداد العظيمة، المدينة التي يعشقها بعنف أؤلئك الصعاليك، الأبناء البررة لتلك المدينة الأم التي ثكلت بأبنائها وهم يموتون واحداً بعد الآخر على أرصفة شوارعها الفارغة التي كانت مكتظة برجال الأمن.
الشاعر صباح العزاوي يمتلك لغة شعرية سهلة لكنها ذات تركيبات لغوية لا يتقنها إلا الشاعر الماهر والمتمكن من لغته التي تتقافز ما بين حروفها صوره الشعرية التي تتعالى كلما يزداد ويضغط الألم على الشاعر الذي يعيش حياة الخراب والموت البطيء كما مات من قبله بسنوات قليلة شعراء مثل عقيل علي وعبد اللطيف الراشد وهادي السيد حرز وآخرين.
ان الظروف القاهرة والفقر والخوف والتشرد وحماقات سلطة القمع هي التي جعلت من صباح العزاوي الشاب الوديع ان يصل الى هذا الموت المؤلم لكنه يبقى كشاعر ارتبط اسمه وتاريخه الثقافي والشعري بمدينة تعتبر من اعظم مدن العالم كانت ومازالت هي بغداد.
صباح لديه اكثر من سبع مخطوطات شعرية لم تر النور.. يقول صباح العزاوي وهو يتباهى بمجده المتعالي في الشعر، حالما بهذا الصفاء وهذه الانسانية الرائعة وهو ينذرها للعيون والرؤوس المقطعة والنساء التي يحرس فيها شوارع الفراغ:
تحت نخلة هنا لغائبات، لعيون
لرأس مقطوع، لقتلى بلا صياح
لمدينة من الكتب، لأمة من الجنون
أكتب كلمتي الأخيرة، المجد لي
أنا تكملة الأصدقاء
أنا حارس شوارعنا من الفراغ
المجد لي
أنا ناشر الطمأنينة في وجوه النساء المعذبات
أنا موئل موتنا اليومي لأسرار جديدة
أنا الابن المشتت بفكرة بغداد...

عرض مقالات: