حينما عاد الشاعر محمد مهدي الجواهري الى بغداد عام 1957 من منفاه الاختياري في براغ كان يبدو وكأنه قد استشرف مستقبل العراق المقبل. فالجواهري والعراق صنوان.. واذ جاز لنا ان نتصور العراق بلا فراتيه، بلا ضفاف انهاره، بلا نخيله، بلا جباله ووديانه وبواديه.. جاز لنا ان نتصور العراق بلا شاعره الجواهري. واذ قدر لنا ان ننظر الى العراق بلا انتفاضاته وفوراته واعاصيره وتمرداته، استطعنا ان نعمى عن رؤية شاعره الشاعر. واذا اردنا ان ننفي اعتباطا الشجاعة والجرأة والتحدي والسماحة والتطامن عن العراقي جاز لنا ان نقف موقف اللامبالاة من الجواهري وشعره.
ولم يطل الامر بشعب الجواهري او الجواهري نفسه، فقد تفجرت الثورة الوطنية الكبرى في صبيحة الرابع عشر من تموز عام 1958 فوقف الشاعر شامخاً بين شامخين، بل وناف عليهم جميعا دون استثناء.
واليوم لا يمكن للمؤرخ المنصف لتاريخ العراق الحديث ان يكون صورة موضوعية عن نضال الشعب العراقي في سبيل حرياته الديمقراطية وحقه في المواطنة الكريمة والمشاركة في الحكم دون ان يقرأ ديوان الجواهري وسيرته المعروفة ومذكراته الشخصية، قراءة متفحصة. وأيا كانت الصورة التي يخرج بها فانه لا يستطيع اهمال دور الكينونة الشعرية هذه. لست اعني بذلك ان شعر الجواهري اصبح وثيقة تاريخية بالمعنى الضيق للكلمة، بل اعني ان قامة الجواهري كانت التعبير الفني الاسمى والاكثر صدقاً ونضوجاً عن معاناة الشعب العراقي ومأساته الدامية، وبالأخص منذ اربعينيات القرن الماضي.
ترى من يستطيع ان يتجاهل الصورة التالية في "اخي جعفرا" التي تعود الى زمن انتفاضة 1948:
أرى افقاً بنجيع الدماء
تنوّر واختفت الانجمُ
وكفاً تمتد وراء الحجاب
فترسم في الافق ما ترسمُ
وجيلاً يروح وجيلاً يجي
وناراً ازاءهما تضرمُ
وانا اتساءل هل كفت هذه الصورة الشعرية عن ان تكون رؤيا عميقة لشاعر ارتبط اوثق الارتباط بشهداء شعبه:
يوم الشهيد تحية وسلامُ
بك والنضال تؤرخ الاعوام
بك والضحايا الغر يزهر شامخاً
علم الحساب وتفخر الارقام
بك يبعث الجيل المحتم بعثه
وبك القيامة للطغاة تقام
وبك العتاة سيحشرون
وجوههم سود وحشو انوفهم ارغام

اتحاد الادباء في نواته الاولى

عندما قامت الثورة في تموز 1958 حياها الجواهري بإحدى قصائده الطوال، وانغمر بها ووقف منها موقفا ايجابيا حريصاً، وكان على صلة وثيقة بقائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم، فاتفق الاثنان على ضرورة تأسيس اتحاد للأدباء ونقابة للصحفيين العراقيين، وأوعز الزعيم بتخصيص الارض والدعم المالي لتينك المؤسستين الفتيتين، من خلال الاملاك المحجوزة للعائلة المالكة وبطانتها العميلة. ويختلف الباحثون حول عائدية ارض الاتحاد الحالية في منطقة "العلوية" باعتبارها جزءاً من تركة العائلة المالكة او بقايا املاك عائلة "السويدي" الارستقراطية الشهيرة، او ان الارض المذكورة كانت كباريه سياسي لهواة سباق الخيول "الريسز" يرتع فيها الفنان الفكاهي جعفر لقلق زاده وثلته بفواصل واسكيتشات حافلة بالتمثيل والرقص والغناء وترتادها الفرق المصرية والشامية من خلال عروض تلمح الواقع الاجتماعي او استحضار اجواء اجنبية تنقل حيوات مختلفة نقلا غير أمين، او تؤلبه تأليبا مضحكخانياً على الثورة.
ومع ذلك، فقد تنادى افراد الهيئة العامة للأدباء والمثقفين في هذه الارض العذراء بضرورة تشكيل هيئة ادارية ضمن نزعة ديمقراطية وانسانية أصيلة بتاريخ 7/ 5/ 1959 فانبثق جراء ذلك تشكل اول منظمة ادبية في العراق بانتخابات حرة رعاها وزير العدل وقتذاك الاستاذ مصطفى علي، ونشرت مجرياتها في جريدة "الوقائع" العراقية، وبالصورة التالية:
*
محمد مهدي الجواهري - رئيساً
*
د. صلاح خالص – سكرتيراً
*
محمد صالح بحر العلوم – اميناً للصندوق
مع العضوية الادارية للذوات: ذنون ايوب، د. مهدي المخزومي، د. علي جواد الطاهر، عبد الله كوران، عبد الوهاب البياتي، لميعة عباس عمارة، عبد الملك نوري، عبد المجيد الونداوي، د. علي الوردي، مظفر النواب، يوسف العاني، سعدي يوسف.
وبهذا الطاقم المستقطر من ارقى مثقفي العراق دقَّ اتحاد الادباء مداميكه الاولى في المشهد الثقافي بعد اختياره الشاعر المعروف ألفريد سمعان كمدير اول للإدارة. وكان من ثمرات هذا الطاقم الاداري الجديد رعاية واستنهاض الجلسات والأماسي الاسبوعية وقبول الاعضاء الجدد والاشراف على تحرير مجلته الفصلية الرائدة "الادب المعاصر" فضلا عن تنظيم الزيارات المتبادلة بين الاتحاد وبقية الاتحادات الادبية المعروفة في العالم، كاتحاد الادباء والكتاب السوفييت الذي حفل بالسفر اليه عبد الوهاب البياتي وكاظم السماوي، واتحاد كتاب الصين الذي تردد عليه غائب طعمة فرمان وجلال الحنفي، او الزيارات المعروفة لوفود مؤتمرات السلام التي كان يحظى بها الجواهري ويوسف العاني وابراهيم اليتيم. بالاضافة الى الدعوات الفردية الضنينة التي اهتبلها حسين مردان ذات مرة في السفر الى موسكو، فواجه معلمه الاول في الفلسفة الوجودية جان بول سارتر من دون ان يتكلم معه، مذعوراً من حاجز اللغة.
في القطيعة
بين الشاعر والزعيم

كان من نتائج هذه النزعة الديمقراطية والانسانية التي اتاحها الجواهري ومن هم بمعيته وقتذاك ولادة الافتراق بين الشاعر والزعيم، والتاريخ السياسي والادبي في العراق لا ينسى بالمرة تلك المقابلة بين الهيئة الادارية للاتحاد والزعيم في وزارة الدفاع في بداية الستينيات من القرن الماضي، حينما انفجر الصراع على أشده بين الرجلين، وكان موضوعها مسار الثورة وتطورها، ويعرف اعضاء الهيئة الادارية آنذاك للجواهري موقفه المتحدي الشامخ.
وتكرر الامر ثانية في مسرح الشعب عام 1961 حينما نعى الزعيم الصحافة العراقية في ترديها وابتذالها، فما كان من الجواهري الا ان يطوي خطابه المكتوب وارتجل خطاباً رد فيه على قاسم. وانصبت فحوى خطابه على ان من حق الناس جميعاً ان ينددوا بالحال التي وصلت اليها الصحافة، الا ان هذا الحق لا يجوز للزعيم "الامين" – كما كان ينعته – اذ ان مفاتيح الامور بيديه، ولمح الى انه هو المسؤول عما آلت اليه الصحافة. وكان يعني بذلك حالة الاسفاف التي وصلت اليها الصحافة الرجعية ولغتها البذيئة في مهاجمة انطلاقة الشعب الديمقراطية، وكانت تسميها بالمد الفوضوي الاحمر، وكانت تنعت الجماهير بأوسخ الجماهير مقابل تعبير "اوسع الجماهير" الذي ساد في صحافة الجانب اليساري والديمقراطي.
وما كان من الزعيم اخيرا الا ان يعتقل الجواهري، ويضع "درهم واحد" مقدارا لكفالته نكاية واستهواناً. وهذا ما دعا الجواهري الى العودة مرة اخرى الى مغتربه التشيكي في براغ. وظل اتحاده الادبي ونقابته الصحفية في صراع معلن مع سلطة الزعيم، بفعل الصحبة او العشرة الطيبة لزملائه وتلامذته ومريديه، حينما كانوا يسعون في كل دورة انتخابية جديدة الى تسديد مبالغ الاشتراكات المستحقة بذمته تواصلا لوضع اسمه على رأس القائمة الديمقراطية في العراق، مع محاولة مستميتة من العلامة اللغوي مهدي المخزومي في طبع ديوان الجواهري في خمسة اجزاء.
ومع ذلك، كان القدر بالمرصاد حينما حدث انقلاب 8 شباط 1963 إذ أغلق الاتحاد وختمت ابوابه بالشمع الاحمر حينما ألقي القبض على الكثير من اعضائه وزجوا في سجون خلف السدة والحلة والكوت ونقرة السلمان، وهو قدر انتقالي لا طبيعي في حياة الاوطان، وفيه الكثير من المحرم او المسكوت عنه في تاريخنا الثقافي والسياسي المعاصر.

إيماضة اخرى في مسيرة الاتحاد

في عام 1969 وبعد الانقلاب البعثي الثاني وحال عودة الجواهري من براغ مرة اخرى أعيدت فكرة تأسيس الاتحاد من جديد على أسس سياسية معلنة في تقاسم التمثيل الاداري وفي كتابة النظام الداخلي وان يشمل كافة الادباء في العراق من عرب وكرد وتركمان وسريان.
وبعد اجتماعات عديدة في مبنى جريدة "الثورة" واخرى في مبنى مجلة "الثقافة الجديدة" اعلن عن تأسيس الاتحاد عام 1970 بمباركة الاحزاب السياسية وقياداتها. ولم يعترض على هيكليته الجديدة سوى الشاعر فاضل العزاوي والاديب المترجم نجيب المانع.
وكان من اهدافه المشروعة ان يكون معنياً برسم السياسات الثقافية الوطنية التي توفر المناخات الملائمة للطاقات الابداعية المحلية في ان تُعبِّر عن قدراتها وامكاناتها وطموحاتها في انتاج منجز ثقافي يضيف الى مشهدنا الثقافي بعدا كميا ونوعيا متميزاً يجعله قادرا على تبوؤ مكانته على الساحة الثقافية العربية، وصولا الى الساحة الثقافية العالمية، وان يتلمس هذا الاتحاد من خلال رصده إيقاع الحركة الثقافية هموم ومشكلات ومتطلبات الاديب العراقي لتحقيق هذا الهدف.
ولقد عانى الاتحاد في مرحلة ما بعد الستينيات وما تبعها من هيمنة قرارات الحزب الواحد وتدخل مجلس قيادة الثورة في صياغة نظامه الداخلي، وتشكلت مكاتب تنفيذية ومجالس مركزية متعددة شديدة التباين في المسؤولية والطباع والمصالح بقيادة عبد الامير معلة ونجمان ياسين ورعد بندر وهاني وهيب، مع امناء عامين متفاوتين في الكفاءة والادارة والابداع كمحمد راضي جعفر ومنذر عبد الحر وعبد المطلب محمود. وفي اواخر التسعينيات جرت محاولة صبيانية للاستحواذ عليه من قبل عدي صدام حسين بواسطة زعيم بطانته المدعو خالد طبره، ونجحت المحاولة الى حد ما لولا تدخل "ديوان الرئاسة" في وقت متأخر لفض اكبر كوميديا سوداء في تاريخ الاتحاد العريق.
وبعد احداث 9 نيسان 2003 تشكلت لجنة تحضيرية من شباب وشيوخ الادباء في العراق للتحضير لانتخابات ديمقراطية حرة وانقاذ ما يمكن انقاذه من موجودات وسجلات الاتحاد، بعد ان تعرضت للسلب والنهب، وعلى مدى خمسة عشر عاما جرت ثلاثة انتخابات لرئاسة الاتحاد وامانته العامة ومكتبيه "التنفيذي والمركزي" فأسفر عن قيادات ادبية ووطنية معروفة، ومنها د. عناد غزوان وفاضل ثامر وناجح المعموري في منصب الرئاسة، والفريد سمعان وابراهيم الخياط للأمانة العامة، مع صعود العديد من الادباء الشباب و الاديبات الى المكتبين المذكورين.
اليوم، وبعد تسعة وخمسين عاما من ذكرى تأسيس الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق يحق للأديب العراقي ان يفخر بما حقق اتحاده من انجازات كبيرة ومهمة في تثبيت ركائز الثقافة التقدمية رغم كل الظروف التي مر بها الوطن.
لقد نشط الاتحاد في تحقيق فعاليات اسبوعية ينهض بها نادي الشعر وملتقى الخميس الابداعي والملتقى الاذاعي والتلفزيوني، فضلا عن الاصبوحة الاسبوعية المعتادة في كل يوم اربعاء والنشاطات الثقافية للمرأة الاديبة ضمن أصبوحات نازك الملائكة مع اقامة المهرجانات الثقافية والمساهمة في تعضيد وطباعة كتب الادباء وعيادة المرضى منهم. وبالتأكيد ان القادم سيكون اكثر عطاء ومضاء، لأن الأديب هو الاعلى ضد الظلم والفساد والمفسدين.