أنتجت سبعينيات القرن الماضي جيلاً شعرياً تتباهى به الشعرية العراقية برمتها، ولا أبالغ إن قلت أن جيل السبعينيات الشعري هو جيل ذهبي، فالأسماء التي تصدرت المشهد الشعري آنذاك كانت ومازالت عالية في سماء الشعر.
قدم السبعينيون قصيدة مختلفة ومتوهجة تنسجم مع تطورات العصر وتبتعد عن المشهد السياسي المتأزم الذي مرَّ به العراق بتلك الفترة المتقلبة في أحداثها السياسية، وهذه الأحداث انعكست سلباً وإيجاباً على الشعر العراقي الذي تمكن من الإفلات من سطوة الستينيين الذين كانوا يسيطرون على المشهد الشعري بالرغم من تقليدهم شعر الرواد، لكن جيل السبعينيات استطاع قلب المعادلة والانتقال الى كتابة القصيدة الحديثة بعد ان جرب كتابة القصيدة الحرة وتمكن من الدخول في العملية الحداثوية عبر قصيدته ذات المواصفات الفنية الجديدة بتكنيكها ولغتها وموضوعاتها.
أحد هؤلاء الشعراء كان الشاعر رعد عبد القادر "1953 -2003" الذي غادرنا على غفلة من الزمن.
جاء رعد الى دمشق ليستلم نسخ ديوانه الجديد الذي كان بعنوان "صقر فوق رأسه شمس" ويترك نسخة مطرزة بإهداء جميل لصديقه الشاعر كمال الذي أجهش بالبكاء وهو يحدثني عبر الهاتف عن صديقه ورفيقه الشعري متألماً على رحيله الذي كان بمثابة صدمة للوسط الثقافي داخل العراق .
تعتبر تجربة الشاعر رعد عبد القادر من التجارب الشعرية الغنية والمهمة، وهو من المجددين في قصيدة النثر ويعتمد في بعض قصائده على السردية داخل القصيدة التي تجعل منها تسير بهدوء في عقل القارئ وتسَّهل فك طلاسم القصيدة ذاتها والتي عادة ما يشوبها الترميز وعدم البوح بكل الأشياء.
أصدر الشاعر أربع مجموعات شعرية في حياته هي: مرآيا الأسئلة ودع البلبل يتعجب وأوبرا الأميرة الضائعة وجوائز السنة الكبيسة.
وأخيرا ديوانه صقر فوق رأسه شمس.
كان الشاعر يشعر ان يوم رحيله اقترب، الأمر الذي ظل يكتب في كل يوم قصيدة او أكثر تاركاً العديد من المخطوطات التي طبع قسم منها بعد رحيله. ونلاحظ في الكثير من قصائد الشاعر انه يتحدث بهاجس الموت وقد كتب قصيدة موته وهو على قيد الحياة! ونادراً ما نقرأ لشاعر يرثي نفسه قبل مماته أو يصور بدقة متناهية منظر وداعه الأخير كما فعل الشاعر عبد القادر في قصيدته البارعة بتركيزها على الصورة وموضوعها المأساوي وكانت بعنوان "موكب جنائزي" وهي عبارة عن مشهد سينمائي يسوده الحزن الشديد وألم الفراق الذي سار فيه المشيعون بصمتٍ مطلق وظلوا يواصلون مسيرهم بهذا الصمت المخيم على المشهد الشعري داخل القصيدة لكنهم حين وصلوا الى المكان الذي سيدفنون فيه جثة الميت ارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب على الفراق وهم يتذكرون يوم رحيلهم القادم لا محال ولو بعد حين!
ويستمر الشاعر في تصوير المشهد شعريا للموكب الجنائزي، كان المعزون يقفون بخشوع، واستمروا في خشوعهم من خلال وقفتهم أمام مشهد الموت المروع، خوفاً منه وهربا من حقيقته الواضحة ومن شدة الخوف والرعب الذي انتاب المعزين ظلوا ينظرون الى أسفل بناطيلهم التي كانت مبتلة! فانصرفوا خائفين مبللين من دون أن يضعوا أكاليل الزهور على قبر الراحل والمقصود به ذات الشاعر الذي صور لنا مشهداً جنائزياً افتراضياً لكنه الأقرب الى الحقيقة الشعرية. ثم يختتم القصيدة بميلان الشمس عندما تعكس أشعتها على المسدس الذي لم تخرج منه إطلاقة وهو ينام بصمته لكن بريقه من أشعة الشمس كان يلفت الأنظار فقد يكون الشاعر يرمز لرجال الأمن حين يقفون يراقبون دفن الضحية بعد موتها، فتشتعل القصيدة بموكبها الجنائزي. يقول:
ساروا بصمت. كانوا يسيرون بصمت
وعندما وصلوا علت أصواتهم
كانوا يقفون بخشوع
وظلت وقفتهم خاشعة
انهم ينظرون الى اسفل بناطيلهم
حتى انصرفوا مبللين
دون توديع أو أكاليل
لقد مالت الشمسٌ
على سطح مسدس صامت!

عرض مقالات: