خرج ابن البصرة ثائراً، يُرَعـرعه لحنٌ شَّجِـيّ لمدينة تنزلق بخفة إلى ما بعد خط التلاشي، مدينة ظمأت وتقهقرت الى آخر خطوط الدفاع، وأضحت منكوبة، متجهمة، قابضة للنفس، تزداد فيها الحياة انهيارا.
خرج ابن البصرة منتفضاً من بين سكرات الموت وجفاف الحياة ونحيب الأمهات في بلدة أفقدت سحرها مطاحن الحروب، وطمرت أنسها أغبرة الزمن، وبددت ثرواتها حيتان الكعكة.
خرج ابن البصرة مغتاظاً بعدما تساوى في أعماقه الحياة والموت، وحين تتساوى كفتا الحياة والموت في وطن، لم يعد هناك شيء يستحق التقديس.
خرج ابن البصرة كمن فرغ من حمل أمانة ثقيلة، كأنه يقوم بتصفية علاقته بمدينة غدت برمتها محض آثار، ركام مهول يتكئ على شفة الذاكرة، وينزلق في ضياع مريح بين أوجاع حاضر ظلامي مريض غدت محاولة ترميمه تشبه المحال.
خرج ابن البصرة ساخطاً في أزقة بصرة أمست كعجوز تتكئ على نواح ذكرياتها المحفورة على خديها، لا شيء في داخلها ينبض بالحياة. كل ما تكتظ به يفوح بعطر الأسف، وبذلك الاحساس المبكر بالنهاية. هكذا غدت البصرة فرشة بالية يا حيتان.
ثارت البصرة لأن فلذات شطها غدت مخلوقات شديدة اليأس، تدنو بحذر من حافة الحياة، وتصغي الى انفصال غامض في منطقة رخوة من الروح، كأنها تشهد طريقة بصرية للتوالد اللا جنسي.
للبصرة نواح مزمن يا "حيتان الكاك"، عويل يجترح ثنائية باطنية خفيَّة، منذ اشارة عتبة بن غزوان الى موضع بنائها، منذ احتراق بيوتها في ولاية أبي موسى الأشعري. تنوح هذه المدينة منذ غزو المغول والفرس وآل عثمان والإنجليز والدكتاتورية. تعرضت هذه المدينة الى انتهاكات عديدة حصلت على نحو مفرط، حتى وجدت نفسها ازاء اختناق خفي، هدم منظم، موت بالتقسيط.
هل يعرف "الحوت الأخضر" انه خرب مدينة، كان علماؤها من أوائل من جمع ألفاظ لغتنا وأشعارها حتى لا تذوب في لغات الشعوب المستعربة؟
هل يعرف أن تاريخ هذه المدينة يعود إلى ما قبل العصور التاريخية؟ الى جنة عدن وشجرة آدم، وطريدون.
في البصرة يا حيتان ما بعد 2003 اندلعت ثورة رفِّ الذات، علاجٌ بَصْريٌ قديم لكل ما هو تالف منها، لكل ما نهش من جسدها، لكنه تحول الى اشارة مخيفة لصاعقة قرمطية قادمة ستحرق أخضركم ويابسكم.
البصرة أم العراق، تاج المدن، ملتقى آدم وحواء، فمن أرادها بقرة "نفطية" حلوب فليحذر من مؤخرتها!