يعتبر الشاعر الراحل عبد الأمير الحصيري المولود في مدينة النجف الأشرف عام 1942 من أهم الشعراء الكلاسيكيين والذي كان من الممكن أن يحمل راية الشعر العمودي بعد الجواهري لولا صعلكته وتشرده في الحانات وعلى أرصفة الشوارع بعد أن جاء من مدينة النجف الى العاصمة بغداد. الحصيري شاعر كبير ولغوي بارع لكنه مات مبكراً وهو في قمة عطائه بسبب الغربة التي عاشها داخل وطنه حتى رحيله في عام 1978 في فندق الكوثر الشعبي بجانب الكرخ من بغداد وهو فندق رخيص جداً سكنه الشاعر لفقره وصعلكته كما كان يجلس في أغلب حانات بغداد الرخيصة جداً، وكان من جلاس المقاهي فهو دائم الجلوس في مقهى حسن عجمي ومقهى البرلمان، وسكن في غرفة بائسة بمنطقة الحيدر خانة القريبة من تلك المقاهي التي يحب الجلوس فيها ويسخر كثيراً من مصطلح تفجير اللغة الذي كان سائداً في فترة الستينيات، وقد روى الدكتور عائد خصباك في مذكراته انه كان يجلس مع الحصيري في واحد من المقاهي ودخل أحد الأدباء من الذين يتحدثون بمصطلح التفجير اللغوي، فقال الحصيري هذا الذي دخل علينا سوف يفجرنا لغوياً فعلينا أن نغادر المكان قبل تفجرينا! والشاعر الحصيري كان سريع البديهية في السخرية من الأحداث وما يجري من حوله. وكان الشاعر سعدي يوسف قد كتب مقالة استذكر فيها الحصيري ووصفه بدقة منذ دخل اتحاد الأدباء فتىً حتى خرج منه نعشاً محمولاً إلى مقبرة وادي السلام بالنجف.
هكذا كانت حياته من تشرد وبؤس في الحانات والمقاهي والشوارع، إنسانا مشردا لكنه شاعر كبير لا يشق له غبار.
نشر الشاعر عبد الأمير الحصيري أكثر من تسعة دواوين شعرية والكثير من القصائد في الصحف والمجلات وثمة قصائد أخرى ضاعت منه أو تمزقت حين كان ينام على أرصفة الزمن التي كانت تضج بالمارة، كما ضاع منه ديوان مخطوط كان يجهزه للطبع. فالشاعر الحصيري كثير الكتابة في الشعر والتي كانت تعينه على مصائب الدنيا وويلاتها، ومن أشهر قصائده التي نحفظها منذ الصغر قصيدة بعنوان "القلق" وهي من القصائد التي تجتمع فيها الكثير من صفات الشاعر الشريد الذي انشغل بالشعر ومات بطريقة مؤلمة.
في قصيدته "القلق" أوغل في وصف الجلاس والندل، ثم تحدث عن ذاته الجائعة القلقة التي لا تعرف غير الحانة والفندق والشارع وأرصفته التي في أحايين كثيرة ينام عليها ويغرق في سبات عميق.
قصيدة القلق الحصيرية تعلمنا على إن الشعر وصوره تشبه أمواج البحر حين تعتلج أو تتلاطم فيما بينها فتكّون لوحات مائية تشد الناظرين إليها من شدة جمالها، وهكذا هي قصيدة الحصيري تأخذ بأيدينا من خلال صورها التي تشكلها حروف الشاعر الذهبية لتخلد البؤس والشقاء والفقر والجوع والتشرد والألم والصعلكة والنوم على الأرصفة والخوف من قادم الأيام لكن الشاعر يصبح إلهاً داخل قصيدته بعد تشرده وجوعه!
يقول الشاعر الحصيري الذي عاش ثلاثة عقود ونصف من الزمن المرّ، إلا انه ظل خالدا في شعره كما خلد المتنبي والجواهري وشعراء آخرون:
أجائعٌ، أيَّ شيءٍ ثمَّ يا قلقُ
أَمنْ حطاميَ هذا يمطرُ العبقُ؟
أنا الشريدُ لماذا النَّاسُ تذعرُ من
وجهي وتهربُ من أقدامي الطرقُ.

عرض مقالات: