برعاية كريمة من إتحاد ادباء البصرة أقيم قبل أيام مؤتمر الرواية العراقية الذي أثير حوله الكثير من اللغط والمطالبات بتأجيله، لكنه أقيم ونجح وعُدَّ مبادرة للتضامن مع البصرة وضد محاولات تهميشها، تهميش سلة العراق الذهبية، فكان المؤتمر تأكيدا حيا للتحدي والتضامن مع البصرة.
تفاوتت المواضيع التي تناولها بعض الروائيين في شهاداتهم حيث هيمنت رائحة الدخان وصراخ المنتفضين ضد ظمأ البصرة على بعض الشهادات.
بدأت شهادتي بإهداء: "إلى خالتي "زايره سكنة" التي كانت تسكن صرائف شط الترك في معقل البصرة واليوم تسكن وادي السلام والتي لم يسمعها أحد طوال القرن الكامل الذي عاشته تتحدث عن شيء اسمه " عطش البصرة " فإليها والى كل خالاتي البصريات اهدي شهادتي هذه".
بعد أن انتهيت من قراءة شهادتي، لا أعلم لماذا احسست بحنين كبير الى صرائف شط الترك رغم علمي بأن لا صريفة بقيت في المكان، لكنه جنون الحنين هيمن فجأة على حواسي، استعنت بصديقي البصري عبد السادة كرفيق ودليل، فتسللنا خارج الفندق، اقتربنا من زحمة الشباب وهم يصرخون ضد عطش البصرة، شربنا معهم الماء وتبادلنا الاحاديث والتقاط الصور، لكني لم أتخل عن رغبتي في زيارة المعقل الذي عشت فيه لعام كامل أعقب شباط الاسود 1963 بعد اعتقال الأب بتهمة الانتماء الى اليسار، شحنَّا عفشنا في القطار النازل الى البصرة، حيث الاخوال والخالات، ضمنا بيت كبير من القصب محاط بسياج من الطين، المكان في مخيلة الطفل بين جداري حسينية سيد "سروط" ومدرسة الكندي الإبتدائية، علامتان مختلفتان كونهما شيدا بالطابوق، عدا هذا اكتظ المكان كله بالصرائف.
سألت دليلي البصري عن الحسينية وعن " شط الترك "، النهر، فاشار الى المكان القريب من الحسينية.. مشيت قليلا حسبت الخطوات بين الحسينية وفضاء آخر مشيد بالمخيلة، استطعت ان أستدل على الطريق المؤدية الى المدرسة، في المكان المفترض للبيت الذي سكناه وكان يجاور بيت خالتي "زايره سكنة".. في هذا المكان انبثقت الصورة التي جعلتني متسمرا في مكاني، وبدأت اشم روائحها من بعيد، كانت صورة " دينار ازرق" عثرت عليه صباحا ملقى باستسلام على الارض وانا في طريقي الى المدرسة، الدينار الذي أخفيته في أعماق جيبي، وبقيت طوال الساعات التي أمضيتها في المدرسة أرتجف وأنا أتحسسه وأفكر ماذا سأفعل به؟ حالما خرجت من المدرسة هرعت إلى الدكان، اشتريت الكثير من الحلويات التي كان يجب علي ان ازدردها كلها دفعة واحدة خوفا من أمي، البائع أعاد لي الباقي على هيئة عملات نقدية كثيرة ملئت جيبي، وكنت كلما أسير تصدر تلك الرنة السحرية التي تجعل جسدي يتراقص وأنا أسير، حينما وصلت الى البيت لم أدخله مباشرة، التففت حوله درت حول السياج الطيني، اخترت مكانا حفرت فيه بأصابعي حفرة صغيرة، أخرجت كومة العملة النقدية من جيبي ووضعتها في الحفرة، وساويت التراب عليها، ثم دخلت البيت وأنا أحلم بالعيد الذي سيأتي حيث سأذهب إلى السينمات في العشار وأشتري الكثير من لفات الصمون المغمسة بالعنبة، أو شراء قبعة تشبه قبعة "برت لانكستر" مع حزام عريض بجيب مخصص لمسدس من البلاستك او حتى شراء "بايسكل" يشبه بايسكل "علي" أبن خالي، أحلام طفل يرى العالم من خلال دينار أزرق تحول إلى كومة من النقود المعدنية المدفونة خلف صريفة من قصب. في صباح اليوم التالي قررت أن أتفقد كنزي.. حفرت قليلا منتظرا ظهور العملة المعدنية التي لم تظهر، قلت ربما توهمت في المكان، حفرت في مكان قريب فلم أعثر على شيء، بعد عودتي من المدرسة واصلت الحفر.. بحثاً عن الدينار الذي ساهم في الحفرة العميقة او التجويف الأسود في مخيلتي الذي أثارته شهادتي الروائية التي أهديتها إلى خالتي وجولتي في تلك الأمسية بين المعقل وشط الترك والابُلَهْ.

عرض مقالات: