بعد مرور مئة عام على ثورة العشرين الوطنية التحررية التي انطلقت يوم 30 حزيران 1920، يلاحظ انها حظيت باهتمام الكثير من المؤرخين والسياسيين، فكتب عنها الكثيرون منهم ومن الباحثين، عراقيين وعرباً وأجانب. واليوم ونحن نحتفل بالذكرى المئوية الاولى لتلك الملحمة الوطنية، يتزامن احتفالنا مع ملحمةٍ جديدة يخوضها الشعب العراقي، للتخلص من كل اوجه الفساد، والأمل في بناء وطنٍ موحَّد آمن مُستقرٍ مُزدهر، وهو امل كل الشعب العراقي.
أود أن أتناول في البداية أسباب الثورة وأحداثها ونتائجها، وأسلِّط الضوء على المناطق التي ساهمت فيها، سواء كانت المشاركات عسكرية قتالية أم فكرية أم تنظيمية، فضلاً عن التركيز على أهمِّ الشخصيات التي ساهمت بشكلٍ فاعل في الثورة، سواء كانوا شخصيات عشائرية أو دينيَّة أو من الحركة الوطنية أو من الصحافة أو ضباطا عثمانيين أو أفندية. كما سأحاول من خلال المعلومات المتوافرة، بيان مشاركات العراقيين بغضِّ النظر عن اديانهم ومذاهبهم أو قومياتهم ومهما كانت طبيعة تلك المشاركات في توحيد الصف واللُحمة الوطنية.
حاولت الاعتماد على مصادر متنوعة، آملاً عدم إغفال دور أي طرف عراقي، لإيماني أننا نحتاج اليوم للتلاحم قبل فوات الأوان، وسوف لن ينفع الندم على طغيان الصراعات التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع، في الوقت الذي تتسابق فيه الأُمم من أجل تقدمها ورخاء شعوبها.
يقوِّم الدكتور علي الوردي، في كتابهِ (لمحات اجتماعية)، ثورة العشرين وهويتها الوطنية، بالقول: "يمكن القول على أيَّةِ حال أنَّ ثورة العشرين هي أول حدث في تاريخ العراق يشترك فيه العراقيون بمختلف فئاتهم وطبقاتهم، فقد شوهدت فيها العمامة إلى جانب الطربوش، والكشيدة إلى جانب اللفة القلعية، والعقال إلى جانب الكلاو، وكلَّهم يهتفون "يحيى الوطن".
أمَّا رأي الدكتور عباس كاظم في كتابه (ثورة 1920)، المُترجم عن الإنكليزية، وهو آخر دراسة علمية مُعمَّقة قرأتها عن ثورة العشرين، وقد صدرت عن جامعة تكساس الأمريكية، فيُشير بقولهِ: "كانت ثورة العشرين ثورةً وطنية عراقية في المقام الأول ". مؤكِّداً أنَّ كلَّ المشاركين في الثورة لم يستلموا أيَّة مساعدة أو دعم خارجي، بل اعتمدوا على الموارد الذاتية .
المؤرخ العراقي الكبير السيد عبد الرزاق الحسني (1903-1997) أفرد كتاباً كاملاً لثورة العشرين، عنونه (الثورة العراقية الكبرى)، وأشار في خاتمتهِ الى "إنَّ ثورة العشرين ...دفعت بالإنكليز إلى إعطاء العراق حكماً شبه وطني بعد تأمين مصالحهم الرئيسية فيه" .
وقال السيد حسان علي آل بازركان في مدخل الطبعة الثانية لكتاب والده، ما نصه: "الذين حاولوا أن يعزوا ثورة 1920م إلى قيام عشيرةٍ ما دون الشعب كلِّهِ، أو الذين عزوه إلى طائفةٍ ما دون سائر شعب العراق، أو إلى منطقةٍ ما دون سائر أرض العراق، ما هم إلاَّ مُفرقي الصفوف وممزقي وحدة الشعب وهم الذين حرفوا الحوادث التاريخية..." .
أمَّا الأستاذ الدكتور وميض جمال عمر نظمي، فقد أفاد : "إنَّ الثورة أسرعت وأسهمت – موضوعياً – في قيام الدولة العراقية الحديثة".
وكتب المؤرخ العراقي الكبير، الكردي الأصل، كمال مُظهر أحمد، ما يلي: "يأتي دور الكُرد في الثورة على رأس المواضيع التي يجب معالجتها، لا من حيث مدى الاشتراك الفعلي لجزءٍ مهم من أبناء الشعب العراقي في أحداث الثورة نفسها فقط، بل كذلك من منطلق دوره الواضح في العملية الثورية، التي اجتاحت مناطق مختلفة من العراق مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، أي عشيَّة الثورة " .
ولا يمكن إغفال رأي الباحث المتخصص بتاريخ العراق المعاصر، السيد محسن جبار العارضي، الذي يقول: "برهن العراقيون عامةً، ولاسيَّما الفراتيون منهم خاصة أنَّهم جنود أُمناء في سوح القتال، ولن يصبروا على ضيم، فشهروا أسلحتهم ذائدين عن كرامتهم وحرياتهم المُغتصبة في ثورةٍ عارمة، عمَّت البلاد من أقصاها إلى أقصاها على مدى (140) يوماً" .
وللمؤرخ والأكاديمي السوفيتي المعروف ل. ن. كوتلوف، رأيٌ لا يبتعد كثيراً عمَّا أسلفنا، إذ يقول: "سَرَت الثورة في البلاد سريان النار في الهشيم، وأصبحت تهدد باكتساح كافة أنحاء البلاد".
وبعد هذهِ الآراء التي تُعبِّر عن الهوية الوطنية للثورة لا بد من العودةِ للكلام عن أسباب ثورة العشرين.
أورد الباحثون والمؤرخون أسباباً كثيرة ومتنوعة لاندلاع ثورة العشرين، سنحاول هنا تثبيتها :
أنَّ أسباب الثورة تكمن في الضغط والاستغلال الاقتصادي واستنزاف جهود العاملين في ميدان الزراعة. كذلك في فتاوى العلماء الأعلام المُجاهدين في كربلاء والنجف، وفي مقدمتهم المُجاهدون مُحمَّد تقي الشيرازي والأصفهاني والخالصي.. إضافةً للفئة المثقفة في النجف. الى جانب الضغط السياسي والمُطالبة بحقِّ تقرير المصير ، واختيار الحكَّام والحكومات بحرية. وقد تأثر بهذا العامل أبناء المدن والحواضر أكثر من غيرهم.
وسبب آخر هو أنَّ العراقيين عانوا من ظلم وإرهاق الإنكليز، فبثوا شكواهم للعلماء فاتفق الطرفان على الشروع بمُقاتلة الغاصبين.
وهناك رأيٌ آخر يرى ان الثورة هي امتداد للمعارك التي كانت العشائر العراقية تخوضها ضدَّ العثمانيين بين حينٍ وآخر .
ويُضيف علي الوردي مفصلاً أسباب اندلاع ثورة العشرين، بقولهِ:
اعتياد العراقيين على الحكم السائب ايام العثمانيين مقابل صرامة تطبيق القوانين والانظمة ايام الاحتلال البريطاني، كما اصاب البلاد تضخم نقدي ايام الاحتلال البريطاني فارتفعت اسعار القمح والرز فولّد مجاعة وبالمقابل زادت الضرائب الى ثلاثة اضعاف ماكانت عليه ايام العثمانيين. واتبع الانجليز سياسة تقريب شيوخ عشائر وإهمال آخرين، فثارت الضغينة بينهم وامتعضوا من سياسة المُحتل البريطاني. كما إنَّ السياسة البريطانية التي تتوخَّى العدالة والمُساواة في الحكم القضائي، دفعت الفلاَّحين إلى أن لا ينظروا إلى شيوخهم كما كانوا في الماضي، ولهذا زاد كُره الملاَّكين للسياسة البريطانية. وهناك أخيرا رعونة بعض الحكَّام السياسيين البريطانيين ومعاونيهم وقلَّة خبرتهم، ومنهم ليجمان في الموصل ومن ثمَّ الرمادي، والنقيب ديلي في الديوانية، حيث اتَّسمت سياستهما بالتعسُّف والاستبداد والفظاظة. وفي السياق نفسهِ تجاوز الكابتن ويب معاون الضابط السياسي في ناحية عفج على الشيخ صكبان أبو جاسم، أحد أبرز شيوخ آل بدير، عندما قال له حرفياً: "إنَّ كلبي أنظف منك، لأنني أنظفه بالصابون مرتين يومياً". فخرج ابن الستين عاماً غاضباً "ألعن أبوك وأبو الإنكريز كلهم! تريد تتميجر بجعبي". ولعب دور الموجهين بإثارة حماسة الجماهير من الناحية السياسية، والتعاون بين الأفندية والمُلاَّئية، دوراً في التقارب الطائفي الذي ظهر بوضوح أيام الثورة.
وكانت الزيارة التي قام بها الشيخ مُحمَّد رضا نجل آية الله محمد تقي الشيرازي( 1256-1338 هجرية) إلى بغداد، للتعرف والإطلاع على الحركة الوطنية في بغداد والكاظمية ومطالبهم في إنهاء الاحتلال وتأسيس حكومةٍ وطنية، عاملاً مُضافاً لتأجيج الموقف ضدَّ الاحتلال البريطاني. ولا يخفى ايضا تأثير الوعود البريطانية، بيان مود "إننا جئنا محررين لا فاتحين"، وغيره مما ساهم في بلورة الرغبة بالاستقلال. كما لا يمكن إغفال ما قاله السيد علوان الياسري في تموز من عام 1920م للكابتن مان حاكم غماس: "عرضتم علينا الاستقلال ونحن لم نطلبه أبداً، ولم نحلم بهِ أبداً إلاَّ حينما وضعتموه أنتم في رؤوسنا، وفي كلِّ مرةٍ نُطالب بهِ، تسجنوننا" .
وإنَّ ما حدث في دول الجوار ولا سيَّما في سوريا ومصر والحجاز، كان له تأثيره على الحركة الوطنية العراقية المُطالبة بالاستقلال. ولا يمكن إغفال دور الضباط العراقيين في الشام وتشجيعهم لإخوانهم في العراق بالوثوب والدعاية ضدَّ الإنكليز، ومن جهةٍ أخرى استمرار الدعاية العثمانية بأنَّهم عائدون إلى العراق لمُحاربةِ عدوٍ مشترك، لا سيَّما وأنَّ هناك من العراقيين من بقي يتمنَّى عودة العثمانيين، فضلاً عن أخبار المقاومة الوطنية الإيرانية ضدَّ بريطانيا والتي تروَّج في مختلف مناطق العراق، كذلك الدعاية البلشفية ودعوتها لمُحاربة الاستعمار وحثها العرب على النهوض.
ولعبت الموصل دوراً بالغ الأهمية لكثرة الأفندية فيها وموقعها القريب من تركيا، وكانت صلات العراقيين في سوريا مع الموصل قوية جداً، ولهذا كانت الموصل ملتقى ثلاث دعايات: تركية وعربية وبلشفية. ويبدو أنَّ تلك الظروف هيأت لتعليق إعلاناتٍ مناوئة للبريطانيين، وعقدت اجتماعات وطنية، وفي الوقت نفسهِ ازدادت الغارات على خطوط المواصلات البريطانية، وهذا ما أكدته المس بيل في كتابها (تاريخ العراق القريب).
ويُثير الوردي نقطةً في غاية الأهمية، وهي أنَّ آرنولد ويلسون، الحاكم الملكي العام في العراق وكالةً، وابن الـ(35) عاماً، كان على علاقةٍ سلبية مع آية الله الشيخ الشيرازي، وكان ويلسون يذمه في تقاريرهِ إلى حكومتهِ، لأنَّ الشيخ الشيرازي لم يترك له مجالاً في تأييد السياسة البريطانية.
وفي بغداد، حيث نشأت الحركة الوطنية التي تولاَّها المعارضون للحكم البريطاني، رُفع شعار "الاستقلال"، وتأسَّس حزبان سريان، اولهما "حرس الاستقلال" الذي ظهر في شهر شباط من عام 1919، والثاني نشأ بنفس الوقت، وهو فرع من حزب العهد. وكان للمدرسة الأهلية في بغداد، ومديرها علي البازركان، دورٌ في تأجيج روح الشباب والمثقفين الوطنية، حيث كانت مكاناً لعقد الاجتماعات كلَّ يومي اثنين وخميس، وتُلقى فيها القصائد والخُطب الوطنية التي تحث على العلم وحب الوطن. وبدأت تجري اتصالاتٍ بين بغداد ومدن الفرات الأوسط بوساطة السيد هادي زوين، ورافق تلك النشاطات في بغداد نشوء حركة وطنية في كربلاء إثر استفتاء ويلسون، كان قطبها الميرزا مُحمَّد رضا ابن آية الله الشيرازي، والذي أيده والده، فأسَّس جمعيةً سرية باسم "الجمعية الإسلامية". وتزامن مع هذهِ التطورات الفكرية والسياسية في بغداد إعلان الانتداب البريطاني على العراق في 25 نيسان1920.
ومن الجدير ذكره أنَّه جرت أحداث ومواجهات عسكرية في دير الزور وتلعفر ضدَّ الإنكليز وصولاً إلى الموصل خلال شهري مايس وحزيران من عام 1920، كانت أخبارها المُبالغ بها تُثير الحماسة في وسط العراق وجنوبه.
وفي بغداد جرت أحداث خلال شهر رمضان 1920، وأهمها اشتداد التقارب الشيعي السُنِّي، واستثمار مناسبة شهر رمضان للقيام بالمولد النبوي ومجلس التعزية الحُسينية، كما أُقيمت حفلات في جامع الميدان وأخرى في جامع الحيدرخانة وثالثة في جامع الشيخ صندل، وكان يحضرها أكثر من عشرة آلاف شخص. وتضمَّنت إحدى القصائد التأكيد على وحدة المسلمين وعلى استقلال العراق، فاعتقل شاعرها عيسى عبد القادر الريزلي. والحقيقة ان الشعر لعب دوراً مهماً في تأجيج الروح الوطنية والدعوة للاستقلال.
لم يقتصر الوعي الوطني على التقارب الشيعي السُنِّي في بغداد، وتوحيد جهودهما لمواجهة المُحتل البريطاني، فقد شَهِدت بغداد وحسب التقارير البريطانية توحيد قوى المسلمين والمسيحيين. ففي مناسبةٍ دينية مسيحية، كما يُشير تقرير الاستخبارات البريطانية، تجمع وفد إسلامي ضمَّ أبو التمن والداوود والبازركان وغيرهم من المتنورين الشيعة والسُنَّة ورموا الورود والماء المُعطَّر على موكب المسيحيين، وهتفوا: "عاش مجد سيدنا المسيح.. عاشت الوحدة الوطنية"، وأجاب المسيحيون: "عاش أخواننا المُحمَّديون، عاش العرب"، وجرى كلَّ ذلك بداية شهر حزيران من عام 1920.
ولن أستطيع طي صفحة النشاط الوطني في بغداد دون أن أقف بكلِّ وقارٍ وخشوع امام قصيدة الشاعر العراقي الكبير مُحمَّد مهدي البصير، التي تهز الوجدان الوطني، وهو أحد أبرز شعراء ثورة العشرين، حين قال:
يا عِلمُ عش وأعش فعصرك راقِ وأعِد شموس الشرق للإشراقِ
ولم يقتصر نشاط الحركة الوطنية على بغداد، بل تزامن معها نشاط وطني كبير في كربلاء والنجف والحلَّة، والتي ركزت مطالباتها على حقوق العراقيين المشروعة بالطُرق السلمية، وأدت إلى اعتقال الميرزا مُحمَّد رضا الشيرازي أواخر شهر حزيران. ويرى علي الوردي أمر اعتقاله وأصحابه من أهمِّ عوامل اندلاع الثورة .
ويُشير الدكتور وميض عمر نظمي أيضاً إلى وجود روابط سياسية وتنظيمية بين القوميين والزعماء الدينيين والعشائريين في الفرات الأوسط وبغداد، حيث جرى أول اجتماع بين قادة الفرات الأوسط وشخصياتٍ بغدادية، فكان ممثلو الفرات الأوسط هادي زوين وشلاش، حيث عُقد الاجتماع يوم 22نيسان، وحضره السويدي والصدر والنقشبندي وآل بازركان وأبو التمن ورفعت الجادرجي والداوود والنائب والدفتري وباقر الشبيبي وبابان وصادق حبه وصادق الشهربلي، واتفقوا على تنسيق جهودهم وتشديد فعالياتهم، ثمَّ أُرسل أبو التمن إلى النجف حيث عقد اجتماعاتٍ عديدة في شهر ايار من عام 1920، وكانت تلك الاجتماعات بمثابة مسعى لعقد تحالف قومي ديني عشائري، وجرت اجتماعاتٍ عديدة في كربلاء والحلَّة والنجف والموصل، جرى التركيز خلالها على الوحدة واستقلال العراق، وحصلوا على تأييد آية الله الشيرازي .
كان السبب المباشر للثورة المسلحة هو نشوب نزاع ثانوي بسبب دينٍ قدره (800) روبية، كان على شعلان أبو الجون، وهو شيخ بارز في مدينة الرميثة، أن يسدده للحكومة، وكانت الرميثة يومئذٍ تابعة إداريا لمنطقة الديوانية التي يحكمها النقيب ديلي، أحد أبشع الضباط البريطانيين قساوةً، والذي طلب إحضار الشيخ شعلان إلى الديوانية واوقفه، فعبأ أبو الجون رجال عشيرتهِ وأخرجوه من السجن فكانت شرارة الثورة.
وتزامن مع تلك الحادثة تصاعد الموقف ضدَّ البريطانيين في كربلاء والنجف، سواء من رجال الدين أو أعيان السادة وشيوخ عشائر الفرات الأوسط .
وفي الفرات الأوسط ترشَّحت فكرة الثورة المُسلَّحة وخاصةً في مدينة المشخاب، وانتشرت دعواتهم الى المناطق الأخرى .
أصدر آية الله الشيرازي فتوىً تُجيز الثورة المُسلَّحة، سُمِّيت "الفتوى الدفاعية"، ونصها: "مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين، ويجب عليهم من ضمن مطالباتهم رعاية السلم والأمن، ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا امتنع الإنكليز عن قبول مطاليبهم".
ويُشير السيد مُحمَّد الخالصي في مذكراتهِ، إلى أنَّ آية الله الشيرازي كان يأمر "بإرسال ثلاثين إلى أربعين وزنة من التمر ومثلها خبزاً، وهذا غاية ما كان يمكن إرساله إلى جبهات القتال، فيُصيب كلَّ مقاتل كسرة خبز وكفٍّ من التمر، فيطوي عليها ليله ونهاره وهو صابرٌ مُحتسب" .ومن هنا يمكن فهم الدوافع الحقيقية للثورة.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ الثورة أُعلنت في المشخاب بعد أن قرر الزعماء في مضيف الشيخ عبد الواحد الحاج سِكر يوم 11تموز، ثمَّ بدأ حصار أبو صخير يوم 13تموز، وبدأت الثورة في مدينة الشامية، وأخفق مؤتمر الكوفة في عقد هدنة يوم 17تموز، ولهذا انتشرت الثورة في الفرات الأوسط.
يمكن اعتبار (معركة الرارنجية) نقطة تحول في ثورة العشرين وأعظم معاركها، فقد حلَّت كارثة بالقوات البريطانية وغنمت العشائر غنائم كثيرة. وجرت ثورة في شرقي الديوانية "شط الدغَّارة"، ثمَّ انضمت عشائر عفج والأكرع للثورة وجرت معارك القطار التي أربكت القوات البريطانية، فلم تستطع القوات البريطانية المُنسحبة من الديوانية الوصول إلى الحلَّة إلاَّ بعد أحد عشر يوماً، علماً أنَّ المسافة كانت (85) كيلو متراً. وهذا يؤشر حجم المواجهة والمقاومة وبسالة المقاتلين، ولكن تعرض المقاتلون لنكسةٍ أثناء الهجوم على الحلَّة ما إدى إلى تراجعهم وتقديم تضحياتٍ كثيرة. ومن جانبها واصلت عشائر بني حجيم القتال ضمن محور السماوة والخضر، وجرت معارك الخضر والبواخر والمحطَّة. ولا يخفى دور عددٍ من الضباط العراقيين الذين التحقوا بالثوار، ومنهم: حسين علوان الدوري وشاكر القره غولي ومحمود رامز وإسماعيل حقي وفؤاد المدفعي وسامي النقشلي، في تقديم أبرز فنون القتال والمهارات العسكرية، والتي أشار إليها بالتفصيل الدكتور علي الوردي ومعاصرون للثورة.
وأُعلنت الثورة في كربلاء أواخر شهر تموز (25 تموز)، وفي النجف 21 تموز، حيث انسحبت القوات البريطانية بعد إحساسها بغليان الثورة، وفي الكوفة حوصرت الحامية البريطانية وضُربت الباخرة (فاير فلاي) يوم 17 آب، فاحترقت ولم ينتهِ حصار الحامية البريطانية في الكوفة إلاَّ في 17 تشرين الأول1920.
صحيح أنَّ البحث تضمن دور السيد الشيرازي وفتواه الدفاعية، إلاَّ أنَّه وللعلم فإنَّ السيد الشيرازي ورغم كل الدعوات من العشائر ظلَّ يدعو إلى التهدئة والسلم وإخماد الفتنة، كما حاول الشيخ فتح الله الأصفهاني في النجف التوسط لإيقاف القتال، وأرسل رسائل إلى ويلسون والعشائر لإيقاف القتال. وأبدى رؤساء العشائر أخيراً رغبتهم بالسلام امتثالاً لرأي المُجتهدين ولأسبابٍ أخرى، وبيَّنوا إن كانت الحكومة ترغب بالسلم فلتُحقق المطالب التالية: منح العراق الاستقلال التام؛ إيقاف القتال في الرميثة حالاً؛ جلاء الحكَّام البريطانيين عن الفرات، والبدء بمفاوضاتٍ بين الحكومة وزعماء العراق في جوٍّ هادئ؛ وإطلاق سراح ابن الشيرازي وجميع المسجونين والمنفيين .
لا يختلف اثنان أنَّ الثورة المُسلَّحة انطلقت من مدينة الرميثة وقبلها بيومين كانت الاستعدادات تجري في المشخاب واجتماعاتٍ في كربلاء والنجف. وأبرز المعارك جرت أولها شمالي الرميثة في منطقة العارضيات، وظلَّت نيران الثورة في السماوة حتَّى 17 تشرين الأول. ثمَّ اندلعت مواجهاتٍ في أبي صخير قرب النجف، فحصار القوات البريطانية في الكوفة وقاده السيد علوان الياسري، ثمَّ توجه الشيخ عبد الواحد الحاج سِكر شيخ عشيرة الفتلة إلى بلدة الكفل ومن ثمَّ للحلَّة.
أمَّا كربلاء والنجف فقد أخلاهما البريطانيون طوعاً، وكانت خطَّة الثوار الاستيلاء على الحلَّة لتكون العشائر على أبواب بغداد، الأمر الذي احتاطت له القوات البريطانية.
وفي 21 تموز أحرز الثوار نصراً مؤزراً في معركة الرارنجية الواقعة بين الحلَّة والكِفل، كما فرضت العشائر سيطرتها على مدينة طويريج - الهندية (الواقعة بين الحلَّة وكربلاء). وبعد أكثر من شهر ونصف امتدت الثورة إلى مناطق الفرات الأعلى، بعد مقتل ليجمان على يدِ رجال قبيلة زوبع، ولكنها لم تنتشر لكلِّ لواء الدليم لوقوف بعض الشيوخ ضدَّ توسعها.
وفي الفرات الأسفل (الناصرية) انتشرت الثورة بين عشائر المنتفك، وهي إضافة للناصرية، سوق الشيوخ والشطرة وقلعة سِكر، إذ قطع السكَّان خطوط التلغراف، ولكن وقف بعض الشيوخ أيضاً ضدَّ توسعها.
امتدت الثورة إلى ديالى في الأسبوع الأول من شهر آب، وقطعت عشائر العزَّة خطوط السكك الحديدية بين بغداد والمناطق الشرقية من البلاد، وشَهِدت مناطق الخالص (ديلتاوه) ثورةً مُشابهة، وساهم السيد مُحمَّد الصدر والشيخ المُجتهد مهدي الخالصي مع أهالي ديالى في مواجهة البريطانيين، ثمَّ هاجمت عشائر بني تميم المقدادية (شهربان) وأصبحت تحت سيطرة الثوار، وامتدت الثورة إلى مناطق كركوك وأربيل .
ويذهب كوتلوف إلى أعمق وأبعد مما أورده عدد من المؤرخين السابقين، فيُفسِّر ويُعلِّل بمنطقٍ علمي تاريخي، ويُشير صراحةً الى أنَّ المُحتل البريطاني أفشل قيام حركة مُسلَّحة في بغداد، ولهذا بدأ الوطنيون بمن فيهم قادة حرس الاستقلال يغادرون بغداد إلى مناطق الثورة، فقد توجه السيد مُحمَّد الصدر رئيس جمعية حرس الاستقلال إلى ديالى، والتحق يوسف السويدي باليوسفية جنوب غرب بغداد، وتسلَّل جعفر أبو التمن وعلي البازركان إلى الفرات الأوسط.
وفي ديالى ظهرت المقاومة المُسلَّحة في بعقوبة بقيادة الشيخ حبيب الخيزران شيخ قبيلة العزَّة، وباشر بنسف السكَّة الحديد بين بغداد وبعقوبة وخانقين، ثمَّ سقطت مدن ديلتاوه وشهربان وبعقوبة بأيدي الثوار.
وساهمت القبائل الكردية بفعاليةٍ في الثورة، ففي 14 آب ثارت القبائل الكردية قرب (قزلرباط)، ثمَّ زحفت باتجاه خانقين ثمَّ كفري ومنطقة النفط خانة.
وامتدت الثورة إلى غربي العراق، ففي 12 آب قُتل ليجمان من قبل ابن الشيخ ضاري شيخ زوبع، ونُسف خط سكَّة الحديد بين بغداد والفلوجة.
وعاود الثوار الأكراد نشاطهم في المناطق الجبلية، وتمركز الأنصار في زاخو والسليمانية، وفي أربيل لم يجرأ الضابط السياسي البريطاني على الظهور في شوارع المدينة إلاَّ بحراسةِ عددٍ كبير من الجنود، وفي شهر أيلول سيطر الثوار على عددٍ من القرى في المنطقة الواقعة بين راوندوز وكفري.
ويُشير كوتلوف إلى أنَّه رغم تراجع المقاومة والثورة، ولأسبابٍ عديدة في الوسط والجنوب، إلاَّ أنَّ عمليات الأنصار استمرت في مختلف المناطق الشمالية حتَّى شهر آذار1921، فقد أصبح الطريق بين الموصل وزاخو غير آمن بسبب هجمات الفصائل الصغيرة للأنصار، واستمرت الاشتباكات في أربيل حتَّى منتصف كانون الأول من عام 1921، كما سيطر الثوار على ممر سبيلك(بين سهل حرير ومضيق كلي علي بيك) وراوندوز.
وانبرى المؤرخ الكبير كمال مُظهر أحمد ليدافع عن دور الشعب الكردي في ثورة العشرين العراقية، بعد أن حاول البعض طمس أو تسطيح ذلك الدور، ناسين أنَّ الباحثين الغربيين يريدون ذلك لتحجيم ثورة العشرين، ، ففي بغداد تعاون حمدي بابان مع المعارضة أيام الثورة، كما اجتمع عدد من الوطنيين الكُرد مثل رفيق حلمي وفائق توفيق وآخرين من السليمانية وكركوك لإقامة نوع من الصلات مع الثوار في بغداد، وفي ديالى كانت عشائر خانقين سبَّاقةً للانخراط في صفوف الثورة وسقطت خانقين وانزلوا العلم البريطاني ورفعوا العلم العثماني، كما هاجمت القبائل الكردية في كركوك على كفري وأسّروا معاون الحاكم السياسي، كما خرجت قرى ليلان القريبة من كركوك على الإنكليز.
وفي أربيل لم تكن الأمور أحسن حالاً، فقد عبَّروا عن تأييدهم المُطلق لمطالب قادة الثورة في بغداد، وجرت منذ شهر آب أكثر من محاولةِ اغتيال لحاكم المدينة السياسي الكابتن هاي، كما حاولوا حرق دارهِ، الأمر الذي له مغزاه. كما قُطعت خطوط التلغراف بين أربيل وكويسنجق، وانفجرت الأوضاع في باتاس وراوندوز بداية شهر أيلول، كذلك في مناطق بادينان ولم تستقر الأوضاع في عقرة.
ويشار الى حقيقة مهمة حاول الكثير من مؤرخينا تجاهلها، ولكن الدكتور كمال بجرأتهِ المعهودة صرَّح بها جهاراً، وهي ان "هناك مشكلة أنَّ عدداً من زعماء العشائر في الوسط والجنوب وكذلك بالمنطقة الكردية وقفوا مع قوات الاحتلال، وهذا أثر سلباً على مسار الثورة. وعلى الرغم من انتهاء الثورة إلاَّ أنَّ قضايا الوطن والاستقلال السياسي وحتَّى التحرر الاجتماعي بدأت تحل محلَّ المطالب العشيرية أو المحلية الضيقة". وأكَّد أنَّ من نتائج ثورة العشرين أنَّها رفعت من الوعي لدى العرب والكَّرد، وأسرعت بشكلٍ ملموس في عملية توحيد القوى الوطنية في صراعها ضدَّ الاستعماريين الإنكليز، ودشَّنت بوقائعها ودروسها بدايةً جديدة للنضال العربي الكردي المشترك الذي تحول إلى عنصر محرك أساس لمُجمل حركة التحرر الوطني العراقية
لقد ذكرنا في ثنايا صفحات هذه الورقة أسماء شخصياتٍ عراقية كثيرة كان لها دور مباشر ومؤثر في ثورة العشرين وكانت بينها شخصيات عشائرية ودينيَّة وسياسية ومثقفون وضباط عراقيون وكُتَّاب وشعراء وغيرهم، ومن لم يُذكر لا يعني البتة أنَّ دوره كان ضعيفاً.
وأدت الصحافة وعدد من كُتَّاب الثورة والمثقفين العراقيين والشعراء دوراً بارزاً في تعبئةِ الرأي العام العراقي، وكان لهم دور بارز في إلهاب حماسة الجماهير.
من ذلك جريدة "الاستقلال" التي صدرت في مدينة النجف والتي أصبحت تحت إدارة ثورة العشرين، وزيَّنت صدر جميع أعدادها بشعار "لا حياة بلا استقلال".
وقبل جريدة الاستقلال النجفية، أسَّس مُحمَّد باقر الشبيبي في النجف جريدة "الفرات"، التي ظهر عددها الأول في 7 آب1920، وكان هدفها "لنُعرِّف الأمة العراقية كيف تكتسب الفضيلة وتجتنب الرذيلة"، ولكنها هي الأخرى توقفت بعد صدور عددها الخامس في 15 أيلول1920.
ولا يخفى ما لجريدة "العقاب" الدمشقية من أثر في تأجيج الرأي العام العراقي وحماستهِ الدينيَّة الممزوجة بالروح الوطنية والقومية.
كذلك جرى اعتماد أسلوب توزيع المنشورات في الشوارع والأسواق أو إلصاقها على جدران الجوامع والأماكن العامة. وعلى الرغم من قصر عمر صحافة ثورة العشرين، إلاَّ أنَّها قامت بدورٍ لافت للنظر.
ولا بدَّ ايضا من الإشارة إلى دور الشعراء، وأولهم الشاعر مُحمَّد مهدي البصير الذي رصَّعت قصائده معظم ما كتب عن ثورة العشرين، وكلَّها تحث العراقيين على الثورة ضدَّ الإنكليز، خاصة منها قصيدة مشهورة مطلعها:
إن ضاق يا وطني عليَّ فضاكا
فلتَّتسع بي للأمام خُطاكا
"وأُهدي هذا البيت من الشعر لكلِّ أبناء وطني في ظلِّ الظروف التي نمر بها، عسى أن نشحذ الهِمم لإعمارهِ ورقيِّهِ".
وكانت وفاة السيد الشيرازي وعودة بيرسي كوكس ونفاد إمكانيات الثوار المادية وتزايد حجم القوات البريطانية القادمة من إيران، قد قلبت موازين القوى لصالح بريطانيا، لا سيَّما وأنَّ بيرسي كوكس على العكس من سلفه ويلسون كان مُدركاً لطبيعة الشعب العراقي وقيمه. وفي 25 تشرين الأول1920 شكَّل بيرسي كوكس بمساعدة المس غرترود بيل حكومةً عراقية برئاسة السيد عبد الرحمن النقيب، ضمَّت (21) وزيراً، لكلِّ واحدٍ منهم مستشار بريطاني، وكانت مهمة كوكس الثانية إيجاد ملك للدولة العراقية، يكون مقبولاً من العراقيين والبريطانيين، وبدأت البوصلة تميل منذ ذلك الحين لصالح فيصل بن الشريف حسين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كلية الآداب - جامعة بغداد