ألف مرَّة هم قتلوا العراق؛ لأننا نحبُّ النور؛ بل بلا مِنَّة ننشرُهُ فيما يُحيط بنا ؛ لأننا نصون الماء من أدرانهم لأجل أن يتعمَّد الصالحون فيه، بل نحن نزرع الورد فتهرب منه أشواكهم، أقمارنا تحرس العشَّاق، تُلهم الشعراء، تبتلع الظلام، يعلمون تماماً بأنَّ الحياة بلا أغانينا قِفار، وأنَّ الحُبَّ عندنا هو الزاد، النخلة نحن؛ لا تنحني ولا تشيخ، كلَّما عطشت كانت الأرض أمَّاً لها، الجبال الشمُّ، والسهل في خصبه، والبوادي، وطيبة المعدان نحن، ونحن الذهب الصافي؛ فحين تدور الدائرات لنا جولة فيها، وما طعْنُ الظهور خصالُنا، وليس منَّا من يبيع العراق بحفنة، أو يَستدِلُّ به على أهله الغازون
قالها فينا النَوَّابُ:
" زلمنا تخوض مَي تشرين
حدر البردي تتنطر
زلمنا الما تهاب الذَبح
تضحك ساعة المَنحر"
هم يعلمون يقيناً أنَّنا العراق، وما من سلاح عندهم سوى الجراد؛ فأطلقوه في فجر شباطهم الأسود، كي يستبيح الحرمات، ويحصد الزرع والضرع قبل الأوان؛ فاجتثَّ الباسقات، المُثمرات، وأفسد الماء الزلال، تيمَّمَ المُصلُّونَ بالسباخ، والعذارى قصصنَ الضفائر، أشعلنَ الشموع نذرا كي يعود حيَّاً؛ وعاد يتبعه الشهداء.
العراق لم يمتْ، فما أماتَ هولاكو العراقَ، ولا كسرى؛ لكنَّهم ثانية عادوا ليقتلوه، في غفلة من تمُّوز، عادوا، وجوهَ القبحِ يُخفونَ براية بيضاء، ومدُّوا لنا من خلفها يداً قالوا إنها بيضاء، وما كانت ببيضاء؛ وصمة عار في جباههم كانت، وكانت عليهم لعنة التأريخ، وسبَّة الأجيال، ألا لعنة الخلق عليهم والسماء، شعارهم دماء، زادهم دماء، وما الدماء التي في عروقهم تجري سوى أنجاس وليست بدماء.
مرة أخرى بدم بارد ذبحوك – حبيبنا ـ يا عراق -حين استدرجوا بغاة الأرض أجمعهم؛ فدنَّسوا التراب، لوَّثوا الهواء، وامتدت أياديهم على ما خلَّفَ الأسلافُ من كنوز، وفي أقفاصهم باتت العصافير حزينة، وانكسر الناي، والأوتار منه تقطَّعت؛ عودُكَ يا زرياب، الألوان ما عادت هي الأولى، باهتة أمست الألوان.
فالقاتل نفس القاتل.

عرض مقالات: