لم يسجل التاريخ المعاصر لشعبنا، عناده الثوري في الكفاح لإعلاء راية حريته، مبرأة من أية أدران أو تبعية، ولامتلاك ثرواته الوطنية بما يحقق توزيعاً عادلاً لها ومستوى مناسباً من التكافل الاجتماعي فحسب، بل وأيضاً مقدرته المتميزة على الفداء وتقديم قوافل من الشهداء واجتراح مآثر تضحية قل نظيرها من أجل تحقيق مطامحه تلك، حتى بات مألوفاً أن يكون الجد والأب والابن والحفيد شهداء في المسار الشاق والعذب نفسه في آن!
ويعد من أبرز ما ارتكزت عليه كل هذه السمات، ما ارتبط منها بثقافة شعبنا وأحلامه وتطلعاته في التقدم، وما كمن فيه من روح مقاومة للتخلف والعنف والتفرقة، وما تمسكت به الذاكرة الجمعية للناس من إصرار على قيم العدالة والمساواة، وأخيراً ذلك الترابط الجدلي بين قيم الوفاء وتجارب الإيثار التي امتزجت بضمير العراقيين.
وكان بديهياً، مع هذا كله، أن تتمكن البلاد دوماً من مواجهة كل صنوف الهون والهزيمة، وألا تنتكس أو تشحب رايتها، وأن يتبارى أبناؤها في الوفاء للشهداء، سواءً عبر الاحتفاء بمآثرهم أو في مواصلة دربهم الجميل. وأن يكون الشيوعيون العراقيون في طلائع المبادرين للتضحية دفاعاً عن مطامح الشعب، وأول من جمع بين الوفاء للشهداء والعناد على إبقاء شعلة كفاحهم متوهجة، منذ أن اعتلى القادة فهد وحازم وصارم، أعواد المشانق في 1949، فرحين بعطائهم المشرق واثقين بما يروه في الأفق من مخيض فجر بهّي، حتى أخر يوم افتدى فيه فتى راية العراق وهو يواجه، بصدر عار، طغمة الفساد والمحاصصة والخراب في ساحات التظاهر والاحتجاج.
ولهذا يكتسب الاحتفاء بيوم الشهيد الشيوعي (14 شباط) هذا العام، وهو يقترن بانتفاضة شعبنا الباسلة وبكوكبة الفتية الذين أذكوا شرارتها بدمائهم الزكية، طعم غبطة خاصة تعكسها سلامة التلاقح بين أفكارنا ونضالنا، رغم كل الصعاب والجراح، فيتدفق مرة أخرى من نبع الوفاء، زلال تضامن يروي ضمائر كل العراقيين ويترسخ فيهم جيلا بعد جيل، يرفع رؤوسهم نحو السماء ليبصروا الشهداء فيها، نجوم هداة، تنير لهم، بصفائها الأثير المسار نحو غد أجمل، يستحقون أن يعيشوه.
ويستبدل الاحتفاء بيوم الشهيد هذا العام، نواح الفقد بنغم ينطلق من صميم الفعل والصدق والحب والوحدة، ليملأ فضاءً لا يدركه البصر وليمحو عن جبين الوطن أنين الحزن ويكلله بوشاح الفخر. كما يتألق ثانية في يوم الشهيد الشيوعي هذا العام، اليقين بقدرة الفتية العشاق، هؤلاء الذين باتوا أيقونات تشدو للجمال والحرية، وهم يعتلون منصات الاحتجاجات، على أن يبصروا طريق الخلاص، وأن يوقدوا شموع الفرح التي تبقي الأفق زاهيا بفكرة، زرعها الشهداء الأوائل وبقيت دائمة الخضرة، بمن حمل رايتهم ووقاها من السقوط.
رفاقي الذين قتلهم الطغاة، سواء من صحبي الذين عرفتهم وعشت تجاربهم أو من الفتية الذين زهّت بهم سوح الانتفاضة الباسلة، بكم بقينا نعشق هذه الأرض عشقاً لن ينضب، ولكم نبقى نغني نشيد الفرح رغم وجع الأضلاع الممزقة، ومنكم نتعلم كيف نواصل المسار البهي.

عرض مقالات: