عند الحديث عن شهيد انتفاضة تشرين الباسلة الرفيق حيدر القبطان تتداعى على مخيلتي صور شتى لهذا الشاب الجميل الذي عرفته عن قرب رفيقا عملت واياه في منظمة واحدة وعرفت والده الدكتور عبد الكاظم العيفاري الذي تربطني به معرفة قديمة عندما عين طبيبا في مدينة القاسم وكانت عيادته قريبة من مكان عملي فنشأت بيننا علاقة استمرت حتى كتابة هذه السطور، فقد كان والده إبان دراسته عضوا في اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية وكان يحمل فكرا تقدميا رغم ابتعاده عن التنظيم في العهد الماضي.
كان الشهيد الراحل في مقدمة الشبيبة الناشطين المجدين في عملهم الحزبي فرغم ظروف عمله الوظيفي المعقدة كان ينفذ كل ما يطلب منه بكل أمانة وإخلاص وجرأة واندفاع، سخر معظم وقته للعمل الحزبي والشبابي وربما أثر ذلك على عمله التجاري الذي يمارسه بعد انتهاء الدوام، وكان مجدا في عمله الوظيفي حاز على اعجاب من عمل معه لما تحلى به من صفات حسنة واخلاق كريمة فهو يبذل كل ما في وسعه لمساعدة مرضاه وتلبية طلباتهم حتى لو لم يكن مسؤولا عنهم، احبه زملاؤه واحلوه المكان المناسب في نفوسهم لما لمسوا فيه من حمية ونكران ذات ،وكان مثالا لما عليه الشيوعي الملتزم المؤمن بقضيته والمدافع عن مبادئه، فإضافة لمسؤولياته التنظيمية كانت لديه مسؤوليات في مجالات المنظمات المهنية والشبابية، فتراه موزعا بين هذه المهمات ينفذها بكل اندفاع وتفان.
اذكر أن اتحاد الطلبة العام واتحاد الشبيبة اضافة لمنظمات مدنية أخرى قررت القيام بنشاط كبير يسهم في رفع الوعي الفكري لدى المواطنين وفي الجانب النسوي بالذات تحت شعار (عشتار تقرأ) فكان (حيدر) قطب الرحى في هذا المشروع الكبير وأتصل بجهات عديدة يجمع منها المطبوعات لتوزيعها في المهرجان، وكنا قد تحركت على الاتحاد العام للأدباء في العراق عارضا عليهم المشروع وأهميته، واتصلت بشهيد الثقافة الشاعر ابراهيم الخياط الامين العام للاتحاد مبينا له أهمية المشروع وضرورة دعمه من قبل الاتحاد فارشدني إلى مخزن الاتحاد الذي خزنت فيه مئات الكتب المكررة ، فاخترت منها مئات العناوين وجلبتها إلى الحلة واتصلت به عند وصولي في ساعة متأخرة من الليل عن وصول الكتب ووجودها في منزلي على نية المجيئ في اليوم التالي لأخذها وبعد أقل من ساعة وإذا به يطرق الباب لأخذ الكتب، وهذا يعكس اهتمامه وجديته في عمله.
وفي المظاهرات التي نظمها وساهم فيها الحزب منذ شباط 2011 كان الشهيد في مقدمة الشباب الناشطين والفاعلين فيها، فهو مع رفاقه يهيئ كافة المستلزمات الخاصة بالتظاهرة، ويحشد لها من يعرف من الشباب، وكان هتافا رائعا يشارك رفاقه الهتافين في ترديد الشعارات المعدة للتظاهرة، ولم يتخلف يوما تحت أي ذريعة أو حجة وكنا نعقد عليه آمالا كبيرة في أن يكون قائدا حزبيا له مكانته بين الكوادر المتقدمة لما يتمتع به من نشاط ووعي فكري، ورغم تكليفه بمهام كثيرة الا أنه لم يتلكأ في واحدة منها، لذلك تدرج في المراكز الحزبية بسرعة قياسية لما يحمله من كفاءات ومؤهلات.
وعند انطلاق مظاهرات 2 تشرين كان أكثر الرفاق اندفاعا، واغزرهم نشاطا وحيوية واندفاعا وكنا نخشى عليه من القوى الظلامية التي تسعى لوأد الحركة الاحتجاجية ، وتحارب الناشطين فيها، فكانت تحذيراتنا له مستمرة طالبين منه التروي وعدم الاندفاع وقبيل انطلاق التظاهرات جرى الاتفاق على عدم الانفراد في التحرك وان يكون الرفاق والاصدقاء قريبين بعضهم من بعض خشية الانفراد بهم، وكان مكلفا بإسعاف الجرحى بعد الذي قوبلت به مظاهرات الاول من تشرين 2019 من قمع مفرط من قبل السلطة الغاشمة، لذلك كان الرفاق يتفقد بعضهم البعض الآخر، وعدما افتقده رفاقه اثناء اشتداد الهجمات على المتظاهرين ولم يجدوه اتصلوا به بواسطة المحمول فلم يرد واعادوا الاتصال ولكن دون جدوى وبعد ساعة او اكثر اتصل احد زملائه به فرد عليهم صوت غريب متسائلا عن علاقة المتصل بصاحب الموبايل فاخبره انه صديقه فقال لهم انه في المستشفى وقد فارق الحياة، فهرع رفاقه الى المستشفى ليجدوه جثة هامدة بفعل الاختناق بالغاز، وتبين لنا أنه سمع بانطلاق تظاهرات فهرع معهم بحكم عمله مسعفا وعندما حاول اسعاف احد المصابين في داخل المقر اغلق باب الغرفة في داخل احدى البنايات فلم يستطع الخروج وقضى بفعل الدخان الناتج عن النيران المشتعلة.
وقد أخبرني والده في المغتسل أن الشهيد قد أتصل به قبل المظاهرة بيوم واحد مبينا له أنه ربما يكون هذا الاتصال الأخير به وقد لا يلتقيان راجيا منه أن يغفر له ما سيسبب له من آلام ومتاعب، فيما ذكرت أسرته الكريمة أنه ودعها معلنا أن لا عودة الا بعودة الوطن فنحن خارجون نبحث عن وطن، وكان لاستشهاده رنة حزن وأسى لكل من عرفه أو عمل معه، فقد قدم زملاءه في المستشفى طلبا لإدارة المستشفى بتسمية صالة الانعاش التي يعمل فيها بأسمه بوصفه الشهيد الأول في انتفاضة تشرين، وأول من سقط شهيدا من الأسرة الطبية، فيما أوعز محافظ بابل الاسراع بإكمال معاملته التقاعدية وصرف راتبه، وكان لرفاقه وزملائه موقفهم الرائع فقد زينت صوره ساحات التظاهر وشوارع المدينة عرفانا بما قدم واكراما لما تحلى به من خلق راق وأدب جم واخلاق عالية ونفس كريمة.
وبعد فالقلم يقف عاجزا أمام الشهادة من أجل وطن ولا يريح الشهيد في قبره إلا ازالة الطغمة الباغية التي سفكت دماء شعبها ونهبت ثرواته وجعلته مسرحا لحروب عبثية لإرضاء الآخرين، وستكون نهاية النظام الفاسد على ايدي المنتفضين من ابناء العراق الغيارى لتقر نفوس الشهداء وهي ترى النهاية الحتمية لحكم الفاسدين والمأجورين.