ليس غريبا ان يصف لوكاتش المفكر الماركسي المجري لينين بانه " المنظر الوحيد الذي كان بمستوى ماركس "، لان لينين خلال ثلاثين عاما فقط ما بين عامي (1893و1923) كتب (45) مجلدا ضم عشرات الكتب والاف المقالات والخطب والتقارير شكلت ارثه الفكري الثر. ان ما طرحه لينين بشكل عام يعكس التطبيق الخلاق للماركسية ضمن نطاق فترة تاريخية جديدة ارتبطت بانتقال مرحلة رأسمالية المنافسة الحرة الى مرحلة الامبريالية، وبعملية تحول الثورة البرجوازية الديمقراطية الروسية الى ثورة اشتراكية. وتتلخص رؤاه واطروحاته سواء في مجال النظرية ام الممارسة، بأربع نظريات مترابطة ببعضها ترابطا جدليا:
"
الأولى نظريته في مجال الفلسفة الماركسية المتعلقة بالمفاهيم والمقولات، والفهم المثالي والمادي، والانعكاس وعلاقته بالوعي، والنضال الأيديولوجي، ومعاركه الفكرية ضد الشعبوية والفوضوية والانتهازية اليمينية واليسارية، والنزعة الآلية، واطروحاته الخاصة في الادب والسياسة والثورة الثقافية.
الثانية نظرية نمط الإنتاج التي تضمنت المسألة الزراعية في روسيا، وبلترة الفلاحين، والتنافس بين المراكز والأطراف، والامبريالية بوصفها اعلى مراحل الرأسمالية من خلال الاندماج بين رأس المال المصرفي والصناعي والاقتسام الجديد للعالم والاحتكار والأسواق الخارجية، ونمط الإنتاج الاشتراكي وشروطه.
الثالثة نظرية الثورة التي شملت مفاهيم التحالفات وظروف تكوينها، الاطروحات الخاصة بالحزب مثل الطليعة والطبقة والجماهير والمركزية الديمقراطية والبيروقراطية، والاممية البروليتارية والاطروحات الخاصة بالمسائل القومية والاستعمارية ومبدأ تقرير المصير، والثورة الدائمة والاشتراكية والحرب.
الرابعة نظرية الدولة التي تتعلق بمفاهيم ديكتاتورية البروليتاريا والديمقراطية والبروليتاريا، ومجالس السوفيات، واضمحلال الدولة، والاشتراكية في بلد واحد والصراع بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي. "
ان جميع اعمال لينين استندت الى مقولته المعروفة " نحن لا نعد مذهب ماركس على الاطلاق شيئا كاملا ومقدسا لا يمس، اننا مقتنعون على العكس بان ماركس لم يقم الا بوضع حجر الأساس للعلم الذي ينبغي ان يطوره الاشتراكيون في جميع الاتجاهات اذا كانوا لا يريدون ان يتخلفوا عن ركب الحياة ونحن نعتقد انه يجب على الاشتراكيين ان يطوروا بأنفسهم نظرية ماركس". ونصح لينين جميع الشيوعيين خارج روسيا بانه " ليس المطلوب ان تستنسخوا تكتيكنا، بل ان تفكروا بصورة مستقلة في ما يمثله طابعه الفريد وشروطه ونتائجه" كما أشار لينين الى " ان الماركسية تتطلب دائما بحكم جوهرها بالذات، حسبان الحساب للحياة الفعلية للوقائع الفعلية وعارض تحويل الماركسية الى منهج من الصيغ والموضوعات المتحجرة المفصولة عن الحياة واكد على ضرورة تطوير الماركسية تطويرا خلاقا وفقا للوضع التاريخي الجديد. وعدم التشبث بنظرية الامس بل معرفة تطوير وتطبيق الماركسية في الظروف الملموسة".
لقد شهدت مرحلة التحول من رأسمالية المنافسة الحرة الى مرحلة الامبريالية إضافة الى لينين بروز مجموعة كبيرة من القادة والمفكرين الذين عاصروا ماركس وانجلز او تتلمذوا على منهجهما، ففي المشهد الفكري السوفياتي برز بليخانوف، زينوفيف، ماراتوف، تروتسكي، بوغدانوف، لوناتشارسكي، بوخارين، ستالين، كامينيف. وفي المشهد الفكري الأوروبي برز غرامشي، روزا لوكسمبورغ، ليبنخت، كاوتسكي، برنشتاين، بارفوس ورواد مدرسة فرانكفورت. وقد خاض هؤلاء المفكرون صراعا فكريا اغنى الماركسية ومنحها حياة متجددة رغم بعض "الخسائر" التي تعرضت لها الحركة العمالية من خلال ذلك الصراع، وكانت اطروحات لينين الجديدة حافزاً لانطلاق تلك الحركة الفكرية الخلاقة التي امتدت الى يومنا هذا وسيظل الصراع الفكري تحت خيمة الماركسية واحدا من علاماتها البارزة.
كان لينين عميق الايمان بان "مذهب ماركس كلي الجبروت يعطي الناس مفهوما عن العالم ولا يتفق مع أي ضرب من الأوهام"، وانطلاقا من من قناعته العميقة بالماركسية، فقد دافع لينين عما قدمه مؤسسا الشيوعية ماركس وانجلز ، وبالمقابل شن حملة قاسية وشرسة ضد الفكر البرجوازي والانتهازي، وكان له الفضل الأول في كشف القوانين التي حلت بالتطور الرأسمالي في عصر الامبريالية حيث تعاظم الصراع بين البلدان الراسمالية من اجل إعادة تقسيم العالم وخلق الحروب الامبريالية، وتقويض جبهة الامبريالية العالمية، التي أوصلت لينين الى استنتاجه الحاسم بان الاشتراكية في البداية يمكن ان تنتصر في عدة بلدان او حتى في بلد واحد .
لقد طور لينين نظرية الثورة الاشتراكية، وقام بتطوير فكرة هيمنة البروليتاريا في الثورة ضمن استراتيجية تحالف العمال والفلاحين، وربط التحالف بثلاثة عوامل: نمط الإنتاج، الطبقة المهيمنة والقوى المحركة للعملية الاجتماعية، وميزان القوى الخاص بظرف معين. واكد انه لا غنى للبروليتاريا عن سياسة التحالفات سواء تعلق الامر بنضالها من اجل الديمقراطية ام من اجل الاشتراكية، لان البروليتاريا لا تستطيع تحقيق أي نصر لها سواء قبل الثورة ام بعدها الا اذا تمكنت من جعل اغلبية الشعب الى جانبها. وقد تم تأكيد هذه النظرية في الممارسة العملية. وتوقع أن الاشتراكية وحدها هي التي ستمكن الأمم من التوحيد على أساس ديمقراطي ودولي حقيقي، وأن هذا سيؤدي إلى التحالف والاعتماد على الذات بين الشعوب الحرة.
وضع لينين برنامجا عمليا لبناء الاشتراكية في روسيا تضمن تنظيم الحساب والرقابة من قبل الشعب باسره وزيادة إنتاجية العمل وتطوير المباراة الاشتراكية وتربية طاعة بروليتارية جديدة وأرسى مبادئ إدارة الاقتصاد السوفيتية. ورفع شعار "من الأفضل اقل شرط ان يكون احسن".

غرامشي

احتل غرامشي موقعا مميزا في تاريخ الماركسية، لأنه أبدع نظرية جديدة في السياسة، فنجاح ثورة أكتوبر في روسيا وفشل الثورة في أوروبا وضع الاشتراكية امام مهمات نظرية وعملية مثل الانتقال الى الاشتراكية وكيف يكون عليه المجتمع الاشتراكي، وقد وضع لينين مع رفاقه في قيادة الحزب الشيوعي نظرية في السياسة تخص المرحلة الانتقالية. لكن غرامشي واجه وضعا مختلفا تماما بعد خسائر الحركة العمالية الجسيمة نتيجة الهجمة الفاشية، ونجح غرامشي في وضع نظرية سياسية جديدة، وافضل من وصف الفرق بين نظريتي لينين وغرامشي في الممارسة هو المؤرخ والمفكر الماركسي البريطاني أريك هوبزباوم اذ قال " ان غرامشي قدم ستراتيجية ماركسية لحركات اشتراكية في بيئات وأوضاع غير ثورية " ان القبول العالمي بغرامشي نابع من كونه فيلسوف التطبيق السياسي العملي بامتياز. وارتباطا بهذه السياسة يمكننا تحليل مفهومي " حرب المواقع " و " حرب الحركة "، فمفهوم حرب المواقع يرتبط بالكفاح الفكري والثقافي الطويل الذي تخوضه الطبقة العاملة ضد الاستغلال الرأسمالي وهيمنته الفكرية على المجتمعات، وينطبق هذا المفهوم على نظرية غرامشي في الممارسة، بينما مفهوم " حرب الحركة " يعني النضال المباشر من اجل الاستيلاء على السلطة السياسية، وهي نظرية الممارسة التي تنطبق على سياسة لينين في ثورة أكتوبر.

تروتسكي:

التقى تروتسكي لينين في لندن واشترك معه في مؤتمر حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي عام 1903 الذي حصل فيه الانشقاق بين البلاشفة والمناشفة، وقد انضم تروتسكي الى جانب المناشفة ما سبب القطيعة بينهما لمدة 12 عاما. انفصل تروتسكي عن المناشفة واتخذ موقف الداعي الى توحيد الجناحين بدعوى الحرص على وحدة الطبقة العاملة ثم غير رأيه واتخذ موقفا صلبا ضدهم بسبب ميلهم الى المساومة مع البرجوازية. وعادت العلاقة بين لينين وتروتسكي عام 1915 في مؤتمر زمروالد الذي ادان الحرب العالمية الأولى ودعا الى موقف اممي ضدها، وتطابقت وجهتا نظرهما حول الثورة الاشتراكية وتراجع تروتسكي عن موقفه السابق من المناشفة واشترك في الحملة المناهضة للانتهازية والاصلاحية في الاشتراكية الديمقراطية. انتمى الى البلاشفة قبل ثورة أكتوبر وأصبح عضوا في المكتب السياسي للحزب البلشفي ووزيرا للخارجية والدفاع وقائدا للجيش الأحمر.
اتفق تروتسكي مع طرح لينين بانه لا يمكن للحكومة الثورية التي يقودها العمال تحت راية الماركسية ان تتوقف في منصف الطريق، وانما عليها ان تدفع الثورة الديمقراطية الى الاشتراكية، وان انتصار الثورة الروسية سيعطي زخما هائلا للثورات الاشتراكية في الغرب التي ستشكل عامل دعم للثورة الاشتراكية في روسيا.
اختلف تروتسكي في البداية مع لينين في قضية تحالف العمال والفلاحين ودورهم في الثورة، وقد رد تروتسكي على فكرة لينين هذه قائلا إن الفلاحين لم يكونوا في أي وقت في التاريخ قادرين على لعب دور مستقل. لانه اعتبر الفلاحين في غاية الميوعة سياسيا وثقافيا، ولا يمكنهم ان يلعبوا الدور الجدير بعمل سياسي كبير. ولكنه بعد ثورة أكتوبر وانضمامه الى قيادة الحزب الشيوعي السوفييتي اقتنع باطروحة لينين حول التحالف بين البروليتاريا والفلاحين في مرحلة تجاوز الرأسمالية وإرساء قواعد بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي.
وكان تروتسكي يعيب على لينين فرط مركزيته في مجال التنظيم، وتبنى النضال السياسي من اجل الديمقراطية داخل الحزب خصوصا بعد سيطرة ستالين على مقاليد الحزب والدولة، ورفض التصور اللينيني لطليعة البروليتاريا الذي يرى فيه ان مجموعة صغيرة من المثقفين المحترفين في العمل السياسي تحل محل حركة الجماهير في صناعة الوعي، ورغم ان تروتسكي لا ينكر ضرورة حزب ثوري الا انه لا يعتقد بفكرة جلب الوعي الثوري من الخارج الى الجماهير وفي رأيه ان الوعي يولد في سياق التجربة الثورية من خلال الاضراب او الانتفاضة، وهنا يبرز دور الحزب في بلورة هذه العلاقة بين الوعي والعمل الجماهيري، وهو السبب الذي جعل تروتسكي متحمسا للسوفيتات لانها ــ كما كان يعتقد ــ الأفضل في رفع وترسيخ الوعي عند الطبقة العاملة .
عرض لينين تعاليمه عن الحزب بوصفه القوة القيادية الطليعية في الحركة العمالية وحدد ستراتيجية وتكتيك الحزب الشيوعي في الثورة البرجوازية الديمقراطية وفي النضال لاجل تحويلها الى ثورة اشتراكية. وأشار الى أهمية الأيديولوجية الماركسية الثورية بالنسبة لحزب الطبقة العاملة والى دور الحزب في الحركة العمالية.
وشرح تعاليم هذا الحزب بأنه القوة المتقدمة والقائدة لحركة الطبقة العاملة وحدد إستراتيجية وتكتيكات الحزب الشيوعي في الثورة الديمقراطية البورجوازية، في إحداث التغيير من الثورة البرجوازية الديمقراطية إلى الثورة الاشتراكية، في إحداث التغيير من الثورة البرجوازية الديمقراطية إلى الثورة الاشتراكية، وفي النضال من أجل انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية العظيمة وتأسيس وتوطيد دكتاتورية البروليتاريا.
من بين دروس ثورة 1905 ما طرحه تروتسكي " ان البروليتاريا تستطيع في بلد متخلف الاستيلاء على السلطة بصورة أسرع منها في البلدان الرأسمالية المتقدمة وهو يربط بين انتصار الثورة في روسيا واندلاعها في البلدان الرأسمالية وبهذا رسم الخطوط الرئيسة لنظريته في "الثورة الدائمة " وطور لينين هذه الاطروحة التي تعود جذورها لماركس عام 1850 الذي اكد على عالمية ودوام الثورة الاشتراكية وارتباطها الجدلي بمهمة الانقضاض على الرأسمالية العالمية في كل ارجاء الكرة الأرضية.

بليخانوف

لم يتوقع احد ان يصبح بليخانوف وهو سليل اسرة من النبلاء، رائد الفكر الديمقراطي الثوري واول من ادخل الماركسية الى روسيا. هرب الى الخارج عام 1880 واستمرت غربته 37 عاما، اسس منظمة تحرير العمل ثم اتحاد الاشتراكيين الديمقراطيين الروس في الخارج، وكانت كتبه في الفلسفة والاجتماع والثقافة وتاريخ الفكر الاشتراكي توزع سرا في روسيا. ونسب لينين فضل اعتناقه الماركسية الى مفكرين اثنين أولهما ماركس والثاني بليخانوف، ورغم اخطائه فقد أنصفه لينين بقوله " ان المرء لا يمكن ان ان يصبح شيوعيا واعيا وحقيقيا الا بعد دراسة جميع ما كتبه بليخانوف في الفلسفة لانها افضل ما كتب في جميع الادب العالمي حول الماركسية.
انقسم الحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي على نفسه سنة 1903 الى البلاشفة والمناشفة، بخصوص الاستراتيجية الاشتراكية الديمقراطية تجاه المهمّات الديمقراطية البورجوازية في الثورة الديمقراطية من جهة، وبخصوص قضايا التنظيم من جهة أخرى. ان جوهر الخلاف بين لينين وبليخانوف كان يدور بشكل أساسي حول طبيعة القوى الاجتماعية السياسية التي يتوجّب عليها قيادة التحرّك الديمقراطي. بليخانوف قال بقيادة البورجوازية للمهمات الديمقراطية ذات الطابع البورجوازي، وعارضه لينين بالقول بعجز البورجوازية الضعيفة عن قيادة الثورة الديمقراطية نظراً الى دخول الرأسمالية في المرحلة الإمبريالية.
دعا بليخانوف الى تشكيل إئتلاف واسع من السوفيتات والبرجوازية والى اجراء صلح طبقي في فترة الحرب وتأجيل موضوع توزيع الأراضي حتى انعقاد الجمعية التأسيسية، بيد أن هذه الدعوة لم تجد تقبلاً لدى الجماهير، فقد تدهور الوضع في البلاد عقب الانتفاضة الدموية في تموز وهزائم الجيش الروسي في الجبهة، ما اعطى شعارات البلاشفة صدىً كبيراً لدى الناس: "السلطة للسوفيتات " و" الأرض للفلاحين" و"المصانع للعمال" و" السلام للشعوب".
حذر بليخانوف من الدكتاتورية وسيطرة الحزب الواحد وإلغاء الجمعية التأسيسية. وواضح إن لينين كان يعرف بشكل أفضل منه توزيع القوى الواقعي في روسيا وحاجات الناس، ولم يكن يخشى المجازفة وحاول إخضاع القوانين الماركسية الى حاجات الثورة الاشتراكية. لقد انتصر لينين على بليخانوف في نهاية المطاف. لكن بعد انهيار التجرية السوفييتية اعيدت اراء بليخانوف على طاولات المناقشات في ما يخص موضوعة ديكتاتورية البروليتاريا، وقضية الديمقراطية الداخلية في الحزب وموضوعة الإصلاح والثورة.
احتدم الخلاف بين بليخانوف ولينين عشية الحرب العالمية الأولى 1914. فقد دعا لينين الى تحويلها الى حرب أهلية. إلا أن بليخانوف أعتقد بأن من واجب العمال والفلاحين أن يدعموا البرجوازية والسلطة في الحرب ضد المانيا وحليفاتها. لكن البلاشفة وصفوا ذلك بـ"الانهزامية" واشتد الخلاف بين بليخانوف ولينين أكثر فأكثر، لاسيما لدى قيام ثورة فبراير 1917. وكان الإثنان في الخارج لدى قيام الثورة. فقد نشر لينين حال عودته الى روسيا "موضوعات نيسان" التي دعا فيها الى تحويل الثورة البرجوازية – الديمقراطية الى ثورة إشتراكية. بينما كتب بليخانوف: "إذا لم تبلغ الرأسمالية في البلاد تلك الدرجة العالية التي تجعلها تشكل عقبة أمام تطور قواها المنتجة، فمن السخف توجيه دعوة إسقاطها الى العمال وأبناء المدن والريف وفقراء الفلاحين. كما لا يقل سخفاً عن ذلك الدعوة الى الاستيلاء على السلطة السياسية".
ان بليخانوف الذي تتلمذ على كلاسيكيات الادب الماركسي، لم يستطع استيعاب المتغيرات الجوهرية التي طرأت على الرأسمالية بعد تحولها الى الامبريالية، لذلك وقع في مطب الاصلاحية وابتعد عن روح الماركسية النقدية، فاختار العزلة بعيدا عن الصراع المحتدم بين الدولة الاشتراكية الوليدة وبين الرأسمالية العالمية التي حاولت حصارها وخنقها في مهدها.

روزا لوكسمبورغ

رحبت روزا لوكسمبورغ بحماس شديد بنشوب الثورة الروسية في أكتوبر، مقدمة أشدّ الإطراء لها. كما جمعتها مع لينين الكثير من النقاط المشتركة، منها الإخلاص اللامتناهي للماركسية، والنضال ضد المعادين للثورة الاشتراكية، والثقة بعمل الجماهير، وضرورة مكافحة الاشتراكية الديمقراطية لمساومتها مع البرجوازية.
اختلفت روزا مع لينين حول بعض الأمور النظرية وتطبيقاتها العملية على الواقع ومنها اختلافها حول دور الحزب الشيوعي الذي اعتبره لينين الأداة في تحقيق ديكتاتورية البروليتاريا، بينما روزا عارضت ذلك وقالت: أن الحزب سيصبح هو السلطة وسيكون السياسيون الحزبيون ديكتاتورية جديدة وسيهضمون حقوق العمال وسوف تختزل مطالب العمال وجماهير الشعب الفقيرة بيد هؤلاء الحزبيين القياديين أي أصحاب القرار. ان روزا لم تعارض تأسيس حزب يمثل الطبقة العاملة، ولكنها اكدت على ضرورة بناء الحزب من الاسفل أي من قاعدته الجماهيرية وعلى أسس ديمقراطية، ووقفت ضد التمادي في سيطرة الحزب على السلطة التي تكتسب شرعيتها من الطبقة العاملة التي يفترض ان تكون هي قائدة التحولات وليس مجموعة محددة من قادة الحزب. وطرحت فكرة ان يمارس تأثير الحزب على البروليتاريا أساسا من خلال أفكاره وبرنامجه وشعاراته وليس من خلال سلطة تنظيمية أومبادرته بالفعل. وراودتها مخاوف بعد ثورة أكتوبر من قيام بيروقراطية محترفة جديدة في روسيا تشرع في اخضاع الجماهير باسم الثورة. كما كانت روزا قلقة من ميل البلاشفة لكبت حرية التعبير والصحافة والتجمع، واعتبرت الاشتراكية والديمقراطية امرين متلازمين.
وفي نقطة أخرى عارضت روزا لينين في مسألة حق الأمم في تقرير مصيرها، حيث قالت.أن هذا المبدأ سوف يخلق فوضى عارمة في حركات الانفصال والاستقلال، ما سوف يقوم باضعاف قوة البروليتاريا حول العالم والموقف اللينيني هنا يعني إعطاء الحق للانفصال وتكوين كيانات سياسية مستقلة، لذلك خاض لينين معركة نظرية قوية لتثبيت هذا الموقف المبدئي ضد روزا والاشتراكيين البولونيين الذين كانوا يرفضون انفصال بولندا عن روسيا القيصرية باعتبار أن هذا الامر صعب وغير قابل للتحقيق على ارض الواقع وكانوا أيضا يعتبرون أن هذا المبدأ يعزز النزعات القومية الوطنية التي أكدوا على الماركسيين وجوب مقاومتها لصالح الأممية وكانوا يعتبرون أن بولندا داخل دولة أكبر ستسير بصورة أسرع نحو البرجوازية الديمقراطية وسيتطور فيها التصنيع وتتحول الى دولة رأسمالية. حسب مفهومهم الذي أعلنوه. وهنا كما أكدوا، سوف تتمكن الطبقة العاملة من التطور وبناء تحالفات طبقية أوسع ومن ثم تحقق مكاسب أكبر للبرنامج الاشتراكي على المدى الطويل. تقول روزا عن الدولة القومية التي ستولد من خلال الانفصال ما يلي: أن هذه الدولة القومية. المثلى ليست سوى شيء مجرد يسهل عرضه نظرياً والدفاع عنه نظرياً ولكنه غير مطابق للواقع. وظلت روزا على قناعتها ببقاء الدولة القومية الصغرى ضمن نطاق الدولة الرأسمالية الكبرى، وكان هذا قد شكّل نقطة خلاف كبرى لها مع ما يطرحه لينين من حق للشعوب كافة في تقرير مصيرها بنفسها وتكوين دولها الوطنية المستقلة.
في قضية تقرير المصير اعتمدت روزا على أساس التحليل الملموس العيني لكل نزعة قومية على حدة، ووقفت ضد تعميم مبدأ تقرير المصير لجميع الأمم، اذ رأت مشروعية شعوب البلقان في التحرر من السيطرة التركية التي تضع العراقيل امام التقدم، بينما اعتبرت النزعة القومية البولونية نزعة بالية تجاوزها الزمن، لان البرو ليتاريا البولونية اصبحت قادرة لا على مهمة الانفصال بل على مهمة النضال المشترك مع الروس في سبيل الاشتراكية. فهي تفكر على أساس من ثورة عالمية بعيدة كل البعد عن انشاء حدود جديدة بل تسعى الى القضاء على الحدود القائمة فعلا.
ذاد لينين عن حق الأمم في تقريرمصيرها وناضل ضد التعصب القومي البرجوازي وكافح في سبيل وحدة عمل البروليتاريين من جميع الأمم وفي سبيل التلاحم والصداقة والمساواة في الحقوق بين الشعوب وتنبأ بان الاشتراكية وحدها هي التي تؤمن التقارب بين الأمم على أساس ديمقراطي حقا واممي حقا وتؤدي الى التحالف والصداقة بين شعوب حرة ومتساوية في الحقوق.
عارضت روزا الرؤية " الإصلاحية " حول تكيف تدريجي للنظام الرأسمالي واعتبرت الانتعاش الاقتصادي في نهاية القرن التاسع عشر ما هو الا نتيجة عارضة لاتساع المشاريع الامبريالية، وان التناقض بين العمل ورأس المال سيزداد كلما تناقصت الأرباح. وان استيلاء الطبقة العاملة على السلطة هو وحده القادر على ان يضع حدا لسيطرة البرجوازية. ان الرأسمالية تعجز عن الاشتغال من دون محيط ما قبل رأسمالي. ان نظرية روزا عن التراكم قوبلت باعتراضات قوية من قبل لينين وبوخارين.
اكد لينين بانه على الرغم من كل أخطاء روزا، " فقد كانت -وستظل بالنسبة لنا- نسرا محلقا. ولن يحفظ الشيوعيون في كل أنحاء العالم ذكراها باعتزاز فحسب، بل إن سيرة حياتها ومؤلفاتها الكاملة، ستكون أيضا دليلا لتدريب أجيال من الشيوعيين في كل أنحاء العالم.

ستالين

لفهم تعقيد الستالينية ، لا بد من تحديد تاريخها ولا بد من استحضار تاريخ ثورة أكتوبر والحرب الاهلية الذي طبع الدولة السوفياتية لوقت طويل بعقدة الحصار والحياة القاسية، ولا بد من الإحاطة بين فكر لينين وستالين ولا بد من ابراز طبيعة الميراث لتحديد الفعل الأصلي الذي ولد الانزلاق الذي انتهى الى مأساة الثلاثينات في الاتحاد السوفيتي: ان قيام حل الجمعية التاسيسية في عام 1918، و القمع الوحشي ضد انتفاضة كروشنات، وقرار المؤتمر العاشر للحزب البلشفي بحظر التكتلات داخل الحزب، وإقامة الحزب الواحد، وخنق النقابات والعجز عن تطبيق المركزية الديمقراطية التي أضحت اقل فاقل ديمقراطية واكثر فاكثر مركزية، كانت كلها مقدمات لامكانية بروز ظاهرة الستالينية . لقد فعل ستالين باللينينية ما لم يكن يريد لينين ان يفعله بالماركسية، اذ جعلها مخططا مبسطا لفلسفة التاريخ ملزما للجميع وتم فرض النموذج السوفياتي على الحركة العمالية، ولم يقتصر تأثير الستالينية على الجانب السياسي والاقتصادي والايديولوجي في الاتحاد السوفيتي وأصبحت انموذجا للتطبيق في بلدان اوربا الشرقية وكذلك تأثير نمطها على سياسات غالبية الأحزاب الشيوعية المنضوية في الأممية الثالثة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر
1-
معجم الماركسية النقدي جيرار بن سوسان – جورج لابيكا الفارابي
2-
لينين المختارات المجلد 3 دار التقدم 1967
3-
لينين المختارات الجزء الاول دار التقدم 1968
4-
لم الماركسية فرحان قاسم دار الرواد
5-
مقالات متفرقة من الانترنت

عرض مقالات: