ان الوثيقة الدستورية - بما لها وما عليها -  وفي وضعها الحالي تتضمن قواعد دستورية تصلح للبناء المؤسسي للدولة، سواء ما جاءت به نصوصها  المتعلقة  بسلطات الدولة الثلاث والصلاحيات الممنوحة لها، او ما يتعلق بالانسان في حقوقه وحرياته وحمايته، مع الاخذ بالاعتبار علوية نصوصها على بقية التشريعات .

البناء المؤسسي للدولة، تفصح النصوص الدستورية عنه من خلال السلطات بدءاً من السلطة التشريعية المكلفة دستوريا بتشريع القوانين الاتحادية والرقابة على اداء السلطة التنفيذية، فضلا عن الاختصاصات الاخرى الواردة في المادة 61 منه. والسلطة التنفيذية بشقيها المتكون من رئيس الجمهورية وصلاحياته الواردة في المادة 73 منه، ورئاسة مجلس الوزراء الذي يمارس صلاحياته المنصوص عليها في المادة 80 منه. ثم السلطة الثالثة وهي السلطة القضائية الواردة احكامها في الفصل الثالث من الباب الثالث منها، مع مبدأ الفصل بين السلطات الناظم لها.

الا ان واقع الحال وتطبيقات النصوص الدستورية تخالف تماما ما دُوّن في الوثيقة الدستورية وعلى مستوى السلطات الثلاث. اذ ترسخت المحاصصة المقيتة وانتشر الفساد في بناء مؤسسي متين. وانتشر الاتجار بالبشر وكثر غسل الاموال وانحدرت الصناعة الى أدنى مستوياتها، وعجزت الزراعة عن ان تكون سلة المواطن الغذائية مع امتداد مساحات التصحر. فضلا عن التدهور المريع في المستوى التعليمي وبؤس خدمات الكهرباء والماء والصحة والخدمات البلدية، وانتشار جيوش الشباب العاطلة عن العمل وغاب الامن مع تعملق المجموعات المسلحة وسطوة العشيرة وسلب الحريات وتكميم الافواه وهدر الحقوق واحراج القضاة في استقلالهم، فضلا عن تعمق نزعة احتكار السلطة وبشكل متعسف.

ما العمل امام هذا الوضع المتردي؟ كيف نفعّل النصوص الدستورية لبناء الدولة؟ ما الوسائل الواجب اتباعها لكي نبني دولة حديثة على وفق المعايير الديمقراطية؟

ان الاجابة على هذه الاسئلة تجد سندها في النصوص الدستورية ذاتها، والتي تم التعامل معها بشكل سلبي ومسيء من قبل السياسين الماسكين بالسلطة وفي دوراتها المتعاقبة، نبينها كما يلي:

اولا – المجموعة التشريعية للانتخابات – ان النظم الانتخابية (الانتخاب والتصويت وتوزيع المقاعد التمثيلية) من القوائم المغلقة الى القوائم المفتوحة الى توزيع المقاعد بطريقة هوندت ثم سانت ليغو المشوه. فضلا عن التشريعات المتعلقة بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات وسواها من التشريعات التي تشكل المجموعة التشريعية للانتخابات، وضعت لاعتبارات متعلقة بالاحزاب ذات الخطاب السياسي الديني، مستخدمة وضعها المبني على الزبائنية وخطاب الطائفة وباعتبارها القوة الماسكة للسلطة.  فقد تمكنت من هذا المنتج التشريعي الذي يبقيها في المقاعد التمثيلية والسلطة التنفيذية، ويُدوّر الوجوه ذاتها لاكثر من دورة انتخابية. خاصة وانها اعتمدت على شخوص تم اختيارهم على وفق معايير الولاء وليس الكفاءة والمعرفة، مع هدر متعمد للكفاءات وذوي الاختصاص حتى لو كانوا من منتسبيهم، ما دامت درجة ولائهم متدنية. هذه المنظومة التشريعية اقصت العديد من شرائح المجتمع النازعة نحو بناء دولة مدنية تعتمد مبدأ المواطنة غير المنحازة الى الهوية الجزئية والحريصة على وحدة الوطن وتقدمه.

ومن آثار هذا النظام الانتخابي وجود النظام السياسي المشوه القائم، لذا عبث باموال الدولة وأمتهن المواطن وكرامته، واوصل حالة التردي والانحطاط والخراب الى كل مفاصل الدولة. وواضح ان استمراه بهذه الشاكلة يعني المزيد من المعاناة والحرمان والعوز والويلات.

 عليه فالخطوة الاولى التي يجب اتخاذها للمباشرة في البناء السليم للدولة، يجب ان تبدأ بتغيير المنظومة الانتخابية - رغم مشقة ذلك  - من اجل تحقيق متطلبات النص الدستوري الوارد في المادة 20 الذي يقول : ( للمواطنين رجالا ونساء حق المشاركة في الشؤون العامة. والتمتع بالحقوق السياسية بما في ذلك حق التصويت والانتخاب والترشيح).

ثانيا – سيادة القانون – لما كان القانون هو مجموعة قواعد السلوك التي تضعها السلطة بغية تنظيم علاقات الافراد فيما بينهم وعلاقتهم بالسلطة، وهي قواعد عامة مجردة ملزمة. فان سيادة القانون على وفق هذا التعريف تعني لزوم احترام القواعد القانونية من قبل الاشخاص المكونين للدولة، سواء كانوا حكاما او محكومين. ويسري فرض احترام القانون على السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.

وقد تم تعريف سيادة القانون من قبل الامم المتحدة بالشكل الاتي: (مبدأ للحوكمة يكون فيه جميع الاشخاص والمؤسسات والكيانات العامة والخاصة بما في ذلك الدولة ذاتها، مسؤولين امام القوانين الصادرة علنا، وتطبق على الجميع بالتساوي ويحتكم في اطارها الى قضاء مستقل وتتفق مع المعايير الدولية لحقوق الانسان ... ) .

وسيادة القانون تعني علوية نصوصه على كافة القواعد الحاضرة في المجتمع سواء كان مصدرها السلطة الدينية او العشيرة او القبيلة او أي تشكيل اخر خارج نطاق الدولة. ما دام القانون قد صدر على وفق المعايير التي نص عليها الدستور، أي عن طريق سلطته التشريعية المؤسسة بموجب اختيار المواطنين باعتبارهم مصدر السلطات. والتأسيس لسيادة القانون يجد سنده الدستوري في احكام المادة 5 منه والتي تنص على ان: (السيادة للقانون ... ) . ومن دونها لا بناء للدولة.

ثالثا – المساواة امام القانون

يجب التمتع بالحقوق والحريات كاملة، وهي الواردة في الباب الثاني من الوثيقة الدستورية وتحت عنوان الحقوق والحريات. وهي الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في فصلها الاول. فضلا عن الحريات الواردة في الفصل الثالث من الباب نفسه. والامر الجدير بالملاحظة ان النصوص المذكورة في هذا الباب مستلة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، المصادق عليهما من قبل العراق بالقانون رقم 193 لسنة 1970. كذلك اتفاقية القضاء على كافة اشكال التمييز ضد المرأة ( سيداو ) المصادق عليها بالقانون رقم 66 لسنة 1986.  وهذا يعني ان الوثيقة الدستورية اسبغت مسحة دستورية على تلك النصوص الدولية المتعلقة بحقوق وحريات الانسان، وارتقت بها الى مستوى النص الدستوري، لذا فهي حقوق دستورية من حيث العلوية.

ان العمل الواجب الاتباع والحالة هذه هو تفعيل احكام المادة 14 من الوثيقة والتي تنص على :

(العراقيون متساوون امام القانون دون تمييز بسبب الجنس او العرق او القومية او الاصل او اللون او الدين او المذهب او المعتقد او الرأي او الوضع الاقتصادي او الاجتماعي ).. باعتبار ذلك خطوة ثالثة .

رابعا – السلطة القضائية. بعيدا عن المكابرة فأنه لا قضاء مستقلا في مجتمع منقسم. ولما كان القضاء هو الملاذ الاخير الذي يلجأ اليه الانسان من اجل حمايته واعادة حقوقه، فيجب والحالة هذه الارتقاء بهذه المؤسسة لكي تتمكن من تحقيق العدالة، وعلى وجه التحديد العدالة كأنصاف من خلال تطوير العمل القضائي، ابتداء من التدريب الاعدادي في المعهد القضائي وصولا الى قضاة محكمة التمييز، وترسيخ الوعي لدى القاضي بأنه سلطة العدالة وليس مجرد موظف في الدولة.

خامسا – هيبة الدولة بامتلاكها للسلاح. يطرح الفقيه "كلسن" سؤاله قائلا: ما الذي يميز حكومة عن عصابة لصوص ؟ ويرد الجواب من المفكر القانوني الفرنسي "الان سوبيو" : انا امتثل لمن يحمل شارة  الشرطة ولا امتثل لأي انسان يريد ان يوقفني في الشارع .

هيبة الدولة في احتكارها للسلاح طبقا لاحكام المادة 9 من الوثيقة الدستورية، لذا يلزم تفعيل احكامها من اجل بناء الدولة.

عرض مقالات: