رأى طريقه تمتد امامه فمشاها دون خشية وحمل في كفه جمرة روحه فأرهقها..
كان شاهدا على عصره فعاشه في لجة الصراع، فثمة وطن يزحف للمنفى ومدينة تصطنع لها نهارات وهي تعيش في ليل حالك. ترك بغداد الاسطورية وهي تتجه الى مكمن اعده الدكتاتور فأفلت من قبضته الى ساحات النضال الوعرة ومنها الى مشارف المدن التي استقبلت وعيا وثقافة واحلاما تتسع للمنفى بتجليات الحضارة بكل ما فيها من حداثة وعنده تحولت افكاره الى ومضات من النور والامل يبعثها كاتب، بعد ان تحولت البندقية لديه الى قلم مسحور.
ذهب ساعيا الى الحقيقة والنجاة بالعقل معا كمن يرغب في تخليص مصيره من خضمّ عالم تتوارى فيه الحرية خلف استار الضرورة منبئة بتشكّل وعي جديد مستنير بأفكار التنوير الداعية الى أولوية الانسان وحريته واستقلاله.
في كل كتاباته كان محرضا فهو كعالم للاجتماع يجد في الممارسة الاجتماعية قاعدة معيارية في السلوك ولأنه اكتشف ان الأنساق الثقافية في المجتمع ظلت تجدد نفسها وهي قادرة على لجم الأفكار التي تريد الخروج من اسوارها لان الأفكار النهضوية لن تكون قادرة على التحقق دون راي عام مستنير من هنا تناول مفكرنا عبد الجبار قضايا المجتمع المدني وطور مفهومه للطبقات الاجتماعية، ولذلك كرس جهده اعواما طويلة لترجمة رأس المال لكارل ماركس واستمد من جدلية هذا المفكر العظيم رؤيته النظرية فاصدر ما بعد الماركسية.
مجدداً وجد في الدولة ايدلوجيا صادمة لأنها ليست من عالم الحداثة، واكتشف ان الوطنية العراقية بما تمتلكه من ثراء نضالي انفصلت عن هذه الدولة فما عاد الناس يمتثلون لأوامرها.
الاحتجاج لديه لا يستند الى معطيات واقع فقط انما الى رغبة كانت تبحث عن الخلاص بعد ان اندمجت الدولة في المشروع الديني، وحولت الايمان والشعائر والطقوس من مسالة ضميرية الى شأن بوليسي، ووجد في ملامح بعض التوجهات الدينية كالمهدوية على انها حركات احتجاج مطلوب اخراجها من مساراتها كنزوع يستنزف المشاعر الى رحابة العقل حيث تصبح العدالة مشروعا واقعيا وانسانيا.
لا يمكن الاحاطة بنتاجه الفكري الذي اغنى عقول متابعيه قبل المكتبات العربية والعالمية بموازاة ما فعله الراحل علي الوردي، وهو بحق واحد من ابرز علماء الاجتماع المعاصرين واغزرهم انتاجا وارصنهم فكرا وانشطهم بحثا. ليس غريبا فقد كان يحمل في قلبه المتعب هم وطنه ومعاناة شعبه ، منذ ان عرفته البندقية مناضلا مقاتلا، ومنذ ان خط قلمه اول كلمة من عصارة فكره ووجيف قلبه ، حتى كانت اخر نبضة من قلبه استنزفت خلف شاشة اعدت وهو يقدم الاجوبة ويثير الاسئلة، فكانت لحظة توتر المشاعر لحظة اختفاء صوت كبير ونجم ساطع .. لكن الافذاذ لا يموتون.
ـــــــــــــــــــ
*
كلمة مجلس السلم والتضامن في جلسة تأبين الفقيد الراحل