"الرسائل الفلسفية"

كان فولتير كاتباً غزير الإنتاج، وقد بدأت الأفكار الفلسفية تفرض نفسها أثناء كتابته حيث جلبت مآثر ملك السويد الخراب، في حين أن منافسه بطرس الأكبر أسس روسيا، تاركاً وراءه إمبراطورية واسعة ومتحضرة، فالرجال العظماء ليسوا محاربين فحسب، بل يعززون الحضارة، وهو استنتاج يتوافق مع مثال إنجلترا.

وكان هذا الخط الفكري ما حققه فولتير بعد تأمل طويل في عمل قصير حاد الذكاء وهو "الرسائل الفلسفية" في عام 1734، فهذه الرسائل الخيالية هي في الأساس برهان على الآثار الحميدة للتسامح الديني، وتُقارن بين علم النفس التجريبي لجون لوك وبين التأملات الافتراضية لرينيه ديكارت. وبعد أن قام بشرح النظام السياسي الإنجليزي، وتجاره، وأدبه، وشكسبير شبه المجهول في فرنسا، اختتم فولتير بهجوم على عالم الرياضيات والفيلسوف الديني الفرنسي باسكال، فغاية الحياة ليست بلوغ السماء عبر التوبة، بل ضمان السعادة لجميع البشر من خلال التقدم في العلوم والفنون. وبات هذا الكتاب الصغير اللامع يشكّل علامة فارقة في تاريخ الفكر، فهو لا يجسّد فلسفة القرن الثامن عشر فحسب، بل يحدّد أيضاً الاتجاه الأساسي للعقل الحديث.

وتبع نشر هذا العمل الذي تحدّث بصراحة ضد المؤسسة الدينية والسياسية فضيحة كبيرة، وعندما صدرت مذكرة اعتقال بحقه في مايو/ آيار من عام 1734، لجأ فولتير إلى قصر مدام دو شاتليه في سيريه بمنطقة شامبانيا، وبدأت عندئذ علاقته بهذه المرأة الشابة والذكية بشكل استثنائي، وعاش معها في القصر الذي جدّد بناءه على نفقته الخاصة.

وكانت مدام دو شاتليه مولعة بالعلوم والميتافيزيقا، وقد أثرت على أعمال فولتير في هذا الاتجاه، فقد تم إنشاء "معرض" أو مختبر للعلوم الطبيعية في القصر، وكتبا مذكرة عن طبيعة النار لاجتماع الأكاديمية الفرنسية للعلوم. وبينما كانت مدام دو شاتليه تتعلم اللغة الإنجليزية لترجمة أعمال نيوتن وكتاب "حكاية النحل" لبيرنار دو ماندفيل، قام فولتير بتعميم تلك الاكتشافات العلمية الإنجليزية التي لم تكن معروفة إلا لقلة من العقول المتقدمة في فرنسا في كتابه "عناصر فلسفة نيوتن" في عام 1738. وفي الوقت نفسه، واصل متابعة دراساته التاريخية، فبدأ كتاب "قرن لويس الرابع عشر"، ورسم مخطوطاً لتاريخ شامل للملوك والحروب والحضارة والعادات، والذي أصبح فيما بعد "مقال عن الأخلاق". وشرع أيضاً في تفسير النصوص الدينية، ففي سيريه، اكتسب فولتير، أثناء صقل معرفته العلمية، الثقافة الموسوعية التي كانت إحدى أبرز سمات عبقريته.

ومع ذلك، لم يكن فولتير بمنأى عن خيبات الأمل، فقد كان لويس الخامس عشر يكرهه، وكانت الفئة الكاثوليكية المتدينة في البلاط معادية له بشدة. وكان فولتير متهوراً، فعندما خسرت مدام دو شاتليه مبالغ كبيرة على طاولة القمار الخاصة بالملكة، قال لها بالإنجليزية: "أنتِ تلعبين مع المحتالين"، وفُهمت العبارة، فاضطر للاختفاء في قصر ريفي ضيفاً عند دوقة مين في عام 1747. وبسبب مرضه وإرهاقه من حياته المليئة بالقلق والاضطراب، اكتشف أخيراً الشكل الأدبي الذي يناسب طبعه الحيوي، فكتب حكاياته القصصية "رؤية بابوك" (1748) و"ميمنون" (1749)، واللتان تجادلان التفاؤل الفلسفي لغوتفريد فيلهلم لايبنتز وألكسندر بوب، و"زاديغ" (1747) وهي نوع من السيرة الذاتية الرمزية، فمثل فولتير، يعاني الحكيم البابلي زاديغ الاضطهاد، ويطارده سوء الحظ، وينتهي به المطاف بالشك في العناية الإلهية، كما كتب في عام 1752 "ميكروميغاس" التي تتناول صغر الإنسان مقارنة بالكون.

وكانت الأزمة الكبرى في حياته تقترب، ففي عام 1748 في كوميرسي، حيث انضم إلى بلاط ستانيسواف (ملك بولندا السابق)، اكتشف علاقة الحب بين مدام دو شاتليه والشاعر سانت لامبرت، وهي علاقة عاطفية انتهت بشكل مأساوي. وفي 10 سبتمبر/ أيلول من عام 1749، شهد وفاة هذه المرأة النادرة الذكاء أثناء الولادة، والتي كانت على مدى 15 عاماً مرشدة له ومستشارته، فعاد في حالة يأس إلى باريس حيث المنزل الذي عاشا فيه معاً، فكان ينهض في الليل ويتجول في الظلام منادياً باسمها.

بعد وفاة مدام دو شاتليه، غادر إلى بروسيا بدعوة من فريدريك الأكبر، لكن إقامته هناك سرعان ما تحولت إلى سلسلة من الصدامات مع علماء البلاط ومع الملك نفسه، مما دفعه إلى الرحيل عام 1753 ليستقر أولاً في جنيف في سويسرا، ثم في قريته الشهيرة "فيرني" قرب الحدود السويسرية.

وفي فيرني، عاش حياة شبه مستقلة عن السلطة الفرنسية، وتحوّل منزله هناك إلى ملتقى للفلاسفة والمفكرين والهاربين من الاضطهاد الديني، حيث أصبح أشبه بمركز ثقافي قبل وجود مفهوم المراكز الثقافية الحديثة.

وفي تلك المرحلة، كان يكتب رسائل يومية تقريباً يناقش فيها السياسة والدين والفلسفة والتاريخ، ويصف بعض الباحثين تلك المرحلة بأنها العصر الذهبي لفولتير، لأنه كان حراً لأول مرة من أي رقابة مباشرة.

وخلال العقود التالية حتى وفاته عام 1778، كتب فولتير أهم أعماله الفلسفية والتاريخية، من بينها "كانديد"، و"القاموس الفلسفي"، وتوغل في كتابة التاريخ العالمي من عهد لويس الرابع عشر إلى عصر بطرس الأكبر، لكنه اشتهر أكثر بنضاله ضد الظلم والتعصب، إذ قاد حملات كبرى لإنصاف ضحايا الاضطهاد الديني مثل عائلة كالاس وسيرفَن، ليصبح في نظر الأوروبيين "ضمير عصر التنوير" بحق.

الوفاة والإرث

عندما عاد فولتير إلى باريس في عام 1778 بعد غيابٍ دام نحو 28 عاماً، استقبله الناس استقبال الأبطال حيث امتلأت الشوارع بالمحتفلين، وظهرت عربة فولتير محاطة بجماهير تصفق له كأنه بطل سياسي لا مجرد كاتب. لكن هذه العودة كانت قصيرة، إذ توفي بعد أشهر قليلة في 30 مايو/ آيار من عام 1778، وقد رفضت الكنيسة دفنه في مقابر باريس بسبب مواقفه من رجال الدين، فدُفن مؤقتاً خارج المدينة، ثم نقلت رفاته لاحقاً إلى "البانثيون"، حيث دُفن العظماء الذين ساهموا في تشكيل الوعي الفرنسي.

من خلال المسرحيات والروايات والمقالات والرسائل، قدّم فولتير رؤية فلسفية واضحة تقوم على العقلانية ورفض الخرافة، وعلى ضرورة الفصل بين السلطة الدينية والسياسية، وعلى إعلاء قيمة التسامح. وتصف دائرة المعارف البريطانية فولتير بأنه لم يكن يبحث عن الحقيقة الفلسفية المطلقة بقدر ما كان يبحث عن الدفاع عن الإنسان العادي، فقد كان يعتبر الحرية مسألة مركزية، وكتب مراراً أن حرية التعبير هي أساس كل الحريات، وأن المجتمع الذي يخاف فيه الناس من الكلام هو مجتمع مهدد بالانهيار.

كما كان يدعو إلى إصلاح القضاء ويرفض العقوبات الوحشية التي كانت سائدة في عصره، وتُعد قضية "كالاس" أحد أبرز المواقف العملية لفولتير، فقد اتُهم جان كالاس، وهو بروتستانتي فرنسي، بقتل ابنه لمنعه من اعتناق الكاثوليكية، وحُكم عليه بالإعدام ظلماً، وأثارت القضية غضب فولتير، فخاض حملة شرسة استمرت 3 سنوات، كتب خلالها عشرات الرسائل والمقالات التي فضحت التعصّب الديني وسوء نظام القضاء، وانتهت الحملة بإعادة فتح القضية وتبرئة الأب لكن بعد وفاته.

ويمتد إرث فولتير اليوم إلى كل حديث عن حرية التعبير، وعن ضرورة حماية الفرد من سلطة الدولة أو سلطة الدين حين تتحولان إلى أدوات قمع، وبهذا المعنى، فإن إرث فولتير لم يكن مجرد أعمال أدبية أو رسائل نقدية، بل روحاً من الشجاعة العقلانية التي مهّدت لثورات وتحوّلات كبرى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وتقول دائرة المعارف البريطانية إنه على الرغم من أن عدداً قليلاً فقط من أعماله لا يزال يُقرأ اليوم، فإنه ما يزال يحتفظ بسمعة عالمية بوصفه مناضلاً شجاعاً ضد الطغيان والتعصب والقسوة، ومن خلال قدرته النقدية وروحه الساخرة وحسّه الفكاهي، نشر فولتير بقوة فكرة التقدم التي ظلّت الشعوب من مختلف الأمم تتجاوب معها، وقد امتدت حياته الطويلة عبر السنوات الأخيرة من العصر الكلاسيكي وحتى عشية العصر الثوري، وفي هذا الزمن الانتقالي أثّرت أعماله وأنشطته في المسار الذي اتخذته الحضارة الأوروبية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"بي بي سي" – 21 تشرين الثاني 2025