
يقدّم السيناتور الأميركي بيرني ساندرز في كتابه الجديد "مكافحة الأوليغارشية" (كراون، 2025) تشخيصاً مباشراً لأمراض نظام الحكم في الولايات المتحدة، والنُّظم المشابهة له حول العالم، ويطرح رؤية إصلاحية جذرية تعتمد على تفاصيل واضحة لكيفية التعامل مع حكم الأقلية، بعضها سبق أن نشره في مقالاته أو تحدّث عنه في خطبه.
يرتكز الكتاب على فكرة محورية مفادها أن الولايات المتحدة تحولت إلى أوليغارشية يحكمها قلة من الأثرياء وأصحاب النفوذ على حساب الديمقراطية والعدالة، ويعتبر أن النظام الاقتصادي والسياسي الأميركي الحالي ليس معادياً للطبقة المتوسطة والفقيرة فحسب، بل إنه يهدد أسس الديمقراطية ذاتها.
تشخيص الداء
يبدأ ساندرز كتابه، المكوّن من 160 صفحة، بتشخيص الداء، مؤكداً أن أكبر مشكلة اقتصادية في العصر الحالي هي التفاوت الهائل في الدخل والثروة، إذ يستحوذ عدد قليل من السكان على حصة ضخمة من الثروة، بينما تتآكل دخول الطبقة المتوسطة والفقيرة وممتلكاتها. ويربط تركّز الثروة بفساد النظام السياسي، مشيراً إلى أن التبرعات الانتخابية الهائلة من الشركات والأثرياء تعني أن السياسيين يخدمون مصالح مموليهم الأثرياء، وليس ناخبيهم.
يهاجم الكتاب النموذج الاقتصادي القائم على تفوق الشركات متعددة الجنسيات التي تتهرب من الضرائب، وتقلص الأجور، وتدمر البيئة، وتتحكم في السياسات العامة لخدمة مصالحها. ويصف تغيّر المناخ بأنه التهديد الأكبر للأمن القومي الأميركي، ويدعو إلى "صفقة خضراء" لتحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد صديق للبيئة يوفر ملايين الوظائف.
بعد تشخيص الحالة، يقدّم الكتاب رؤية شاملة لإعادة بناء الولايات المتحدة على أسس أكثر عدالة، تشمل نظام تأمين صحي حكومي يضمن الرعاية الصحية حقاً أساسياً لكل مواطن، بغضّ النظر عن قدرته المالية، ويقول: "في أغنى دولة في تاريخ العالم، يجب ألّا يموت أحد لأنه لا يستطيع دفع فاتورة المستشفى.
يجب ألّا يفلس أحد بسبب مرضه. الرعاية الصحية حق إنساني، وليست سلعة فاخرة".
ويشدد الكتاب على ضرورة إصلاح النظام التعليمي عبر جعل التعليم العالي مجانياً، وتخفيف عبء الديون الطلابية التي خنقت أجيالاً عدّة، كما يدعو إلى رفع الحد الأدنى للأجور إلى 15 دولاراً في الساعة، ودعم النقابات العمالية، وفرض ضرائب تصاعدية على الأثرياء والشركات الكبرى، وكتب ساندرز: "لم يعد مقبولاً أن يعمل المواطنون بوظيفة أو اثنتين، ويجدون أنفسهم عاجزين عن تغطية تكاليف السكن والرعاية الصحية والتعليم لأبنائهم، بينما يزداد الأغنياء غنى من دون أن يضطروا إلى بذل جهد أكبر. هذا نظام مزوَّر لصالح الأقلية".
إصلاح النظام السياسي
يطالب الكاتب بإصلاح النظام السياسي عبر تعديل نظام تمويل الحملات الانتخابية، وحماية حقّ التصويت، وإنهاء هيمنة المال على السياسة، قائلاً: "ليست لدينا ديمقراطية حقيقية عندما يكون بوسع ملياردير واحد أن يضخ مئات الملايين في الحملات الانتخابية لشراء السياسة التي يريدها، بينما يُحرم المواطن العادي من أيّ تأثير حقيقي. هذه ليست ديمقراطية، هذه أوليغارشية".
ويمكن اعتبار كتاب "مكافحة الأوليغارشية" بياناً أيديولوجياً يشتمل على دعوة للتحرك، إضافة إلى كونه وثيقة مهمة لفهم التيارات السياسية والاقتصادية التي تشكّل عالمنا اليوم، إذ يوجّه نقداً لاذعاً للوضع الراهن، ليس في الولايات المتحدة وحدها، بل في كثير من بلدان العالم، وهو يطرح بديلاً طموحاً يقوم على العدالة الاجتماعية والاقتصادية، متجاهلاً اتهامه بأنه يحلم بنظام حكم مثالي، بينما ذلك أمر غير عملي، بل يهدّد الأسس الاقتصادية والسياسية الراسخة.
ولا تختلف الآراء الواردة في الكتاب عمّا أورده ساندرز في كتبه السابقة مثل "ثورتنا: مستقبل يستحق أن نؤمن به" الصادر في 2016، و"سنتان من المقاومة" الصادر في 2018، و"من حقك أن تغضب من الرأسمالية" الصادر في 2023، والتي ركزت أساسياً على التفاوت الاقتصادي الهائل، وجشع الشركات، والحاجة إلى ثورة سياسية لإنشاء مجتمع أكثر عدالة وديمقراطية. لكن ساندرز صعّد خطابه في كتابه الجديد، واصفاً النظام الحالي بأنه حكم الأقلية الثرية التي تسيطر على الاقتصاد والسياسة ووسائل الإعلام.
يمكن أيضاً ربط الكتاب بالعديد من النظريات الاقتصادية والسياسية الشهيرة، وضمه إلى تيار فكري ونقدي عمره نحو قرنين، اجتهد لرصد صراع القوة بين العمال وأصحاب رأس المال، وبين النخبة والجماهير، وانتقاد فساد السلطة.
يقسّم ساندرز في كتابه المجتمع إلى معسكرين: الأول طبقة الأوليغارشية (الـ 1 في المائة) التي تملك الثروة والسلطة، والثاني الأغلبية (الـ 99 في المائة) التي تعاني من تبعات استغلال الطبقة الأولى لها، وهو يؤكد أن النظام الاقتصادي الحالي مُصمّم لخدمة مصالح الأقلية على حساب الغالبية، ويستند هذا إلى نظرية "الصراع الطبقي" التي صاغها كارل ماركس، ومفادها بأن التاريخ سلسلة من الصراعات بين الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج "البرجوازية" والطبقة العاملة "البروليتاريا"، وأن مصالح الطبقتين متضاربة، ما يؤدي إلى صراع حتمي.
لكن بينما يدعو ماركس إلى ثورة بروليتارية لإسقاط النظام الرأسمالي واستبداله بالاشتراكية ثم الشيوعية، يلتزم ساندرز بالإصلاح الديمقراطي، ولا يدعو إلى إسقاط الرأسمالية، بل إلى ترويضها وجعلها أكثر إنسانية، ما يضعه في إطار الاشتراكية الديمقراطية، وليس الماركسية الثورية.
يمكننا أيضاً ربط تحذير ساندرز من أنّ تركّز الثروة والسلطة في أيدي قلة يؤدي حتماً إلى إفساد النظام السياسي بأطروحة السياسي البريطاني اللورد أكتون، التي مفادها بأن "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة"، وكذلك نظرية "الفصل بين السلطات" التي أوردها الفيلسوف الفرنسي مونتيسكيو في كتابه "روح القوانين" المنشور عام 1748، والتي تدعو إلى منع تركّز السلطة لمنع إساءة استخدامها.
والاختلاف الجوهري هنا أن اللورد أكتون ومونتيسكيو كانا يتحدثان عن سلطة الدولة، بينما يطبّق بيرني ساندرز المبدأ ذاته على سلطة الأثرياء وشركات القطاع الخاص، معتبراً أنهم مركز قوة جديد يجب موازنته وفرض رقابة ديمقراطية عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"العربي الجديد" – 23 تشرين الثاني 2025







