لغير المطلع على كتابات المفكر والفيلسوف الروسي – البريطاني أشعيا برلين (1997) الذي يمثل أحد رموز الفكر الليبرالي في القرن العشرين، واشتهر بأعماله في مجالات الكتابة والمحادثات والخطابة، سيبدو العنوان غريبا ومبهما. فأحد أعماله التي حازت على شهرة لم يتوقعها داخل الوسط الثقافي البريطاني والأمريكي بشكل خاص وأعيد نشرها مرات عدة مما اثار استغرابه معقبا «لم أقصد أن تؤخذ المقالة بجدية. قصدت منها أن تكون مجرد لعبة ذهنية مسلية». ويعود أصل التسمية الى الشاعر والروائي المسرحي اليوناني القديم أسخيلوس (525 ق م -456 ق م ) بينما استخدم برلين مفهومي القنفذ والثعلب لتصنيف نوعين من المفكرين. فالقنفذ يرمز الى من يعرف ويكتب عن موضوع واحد كثيرا، اما الثعلب فهو رمز لمن يعرف ويكتب عن أشياء كثيرة . وقد اعتبر نفسه أقرب إلى الثعلب كمفكر موسوعي يرى العالم من زوايا متعددة بينما شبّه ماركس بالقنفذ..

وقد ولد أشعيا في عائلة روسية ثرية من أصول يهودية في ريغا. هاجرت الى بريطانيا في بداية 1921 وسكنت لندن هربا من الحرب الأهلية التي فرضت على روسيا بعد انتصار ثورة أكتوبر التي قادها البلاشفة في 1917 وظلت هاجسا لديه صبغت أفكاره السياسية ومسيرته العملية بنزعة معادية للفكر الاشتراكي وتجربة الاتحاد السوفيتي بشكل خاص. وبفضل ثراء عائلته أكمل دراسته في كلية خاصة في منطقة بارنز في جنوب غربي لندن، ومن ثم درس الفلسفة والسياسة والاقتصاد في جامعة أوكسفورد. وبسبب تفوقه عيّن كمعلم لمادة الفلسفة فيها ومن ثم أستاذا للنظرية السياسية والاجتماعية فيها (عدا سنتين خلال فترة الحرب العالمية الثانية قضاهما كدبلوماسي في نيويورك في خدمة جهاز المعلومات البريطاني المتخصص بالنشاطات الإعلامية والحرب النفسية في نيويورك ثم موظفا في سفارة بريطانيا في واشنطن). وأسس أشعيا كلية ولفسون للدراسات العليا في جامعة أكسفورد كي تكون مركز تمييز أكاديمي يعتمد قيم المساواة والديمقراطية، وصار أول رئيس لها ثم أصبح بعد تقاعده رئيس الأكاديمية البريطانية لمدة أربعة سنوات. ولخدماته قلد وسام الفارس عام 1971 إضافة الى جملة من الأوسمة والجوائز الأخرى.

وخلال مسيرته الفكرية تأثر بالفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (1724-1804) والمدارس الفلسفية المثالية الأخرى، ولكن تعاطف بعدها مع أطروحات المدرسة الوضعية المنطقية في فيينا، ومنهم الفيلسوف البريطاني من أصول نمساوية لودفيغ فنغنشتاين (1889-1951) حول علم اللغة والمنطق، والفيلسوف البريطاني ألفرد جول اير (1910-1989) الذي تركزت أفكاره على نقد الميتافيزيقيا بسبب عدم إمكانية اخضاعها للتجربة العلمية للتحقق من مصداقيتها. وتأثر برلين أيضا بالمدرسة التجريبية البريطانية وبالمدرسة التحليلية التي كان أحد روادها روبن كولينجوود (1889-1945) وهو مؤرخ وعالم آثار بريطاني، وهي تؤكد على دور المنطق والمعرفة.

وبعد تعرفه في خمسينيات القرن الماضي على أستاذ المنطق في جامعة هارفارد هنري شيفر ( 1882-196) تحول من الفلسفة الى دراسة تاريخ الأفكار، فنشر   كتابه حول مفهومين للحرية. واهتم بدراسة دور الاخلاق والقيم في حياة الانسان وبفلسفة ومنطق العلوم ودور التجريبية والاستنباط في اغناء المعارف العلمية  كنقيض للفلسفة التي لها منهجها الخاص في التعامل مع المفاهيم والفرضيات والتصنيفات الذهنية. وهي ذات أهمية اجتماعية وليست علمية كونها تجعل الفرد يفهم ويعي ذاته ووجوده. وشكك بالقدرة على امتلاك المعرفة بالحقيقة النهائية وباستحالة اختزال التنوع في السلوك البشري الى نموذج أو نظرية أو معيار محدد في معرض نقده للفلسفة الماركسية  .

وفي خضم المذاهب الفلسفية المتعارضة التي رسمت المشهد الثقافي في القرن العشرين ونمو دور المراكز الجامعية في بحوث العلوم الطبيعية اقترب برلين من المدرسة الكانتيه الفلسفية الجديدة التي سعت الى إعادة قراءة كانت في ضوء الاكتشافات الحديثة في العلوم مثل النظرية النسبية لآينشتاين القابلة للاختبار والتجريب. وأكدت هذه المدرسة على أن المفاهيم والمقولات الفلسفية تدرس من داخلها وتتأثر بالدوافع والمشاعر وتعتمد التقييمات الذاتية التي تتحول الى   مسلمات بسبب عدم وجود قوانين عامة تفسر التاريخ أو السلوك الإنساني كما هو الحال في العلوم الطبيعية. ونجد في هذه المواقف الفلسفية استمرا للمنهج المعارض للمدرسة الفلسفية الماركسية في نظرية المعرفة التي ترى وجود قوانين عامة تحرك المجتمع والتاريخ مثل القوانين الطبيعية، وهي تمثل البعد المادي التاريخي من الفلسفة الماركسية.

 ونجد استمرار هذا الموقف المناهض للفكر الماركسي في تناوله مفهوم الحرية وقد طرحها في محاضرة شهيرة له عام 1958 اتبعت مقاربة الفلسفة التحليلية في دراسة الفلسفة السياسية وطرح مفهومين حول الحرية الإنسانية يتسمان بأهمية مركزية في نسقه الفكري، وهما الحرية السلبية التي تسعى الى التحرر من القيود   التي يفرضها الآخرون عليه ليمارس حريته بدون تدخل خارجي من قبل الدولة او الجماعات. تاريخيا تمثل حرية التعبير بدون قيود جوهر أفكار الطبيب والفيلسوف    جون لوك (1632-1704) والفيلسوف الاقتصادي جون ستيوارت ميل (1806-1873) وكلاهما من منظري المدرسة الليبرالية الكلاسيكية. اما الحرية الإيجابية فيفصد بها برلين تحقيق الذات كي يصبح الفرد سيد نفسه وحاكم أمره عبر تمكنه من التعلم وفي المشاركة والتصدي للاستبداد بشرط أن لا تكون تبريرا لقمع الآخرين. ويؤكد برلين على أهمية التوازن بين الجانبين كضرورة لبناء مجتمع عادل وحر، منتقدا الماركسية التي تختزل المجتمع الى قوانين وصراع طبقي وحتمية تاريخية وطموح ثوري للتغيير نحو الاشتراكية.

 ونسج برلين علاقات واسعة مع الوسط الثقافي الغربي والروسي  لتجنيد المثقفين والادباء السوفييت ودعمهم في معارضة النظام السوفيتي. كما احتل نقد الأفكار الاشتراكية والماركسية جزءا هاما من نشاطاته الفكرية. ومن هذه الصلات صداقته مع الكاتب والشاعر فلاديمير نابوكوف (1899-1977) والشاعرة المثيرة للجدل أنا أخماتوقا (1889-1966) والروائي بوريس باسترناك ( 1890-1960) الذي ساعده برلين في تهريب روايته "دكتور جيفاكو" وطبعها في بريطانيا لتصبح أحد أدوات الحرب الباردة في مجال الثقافة والأدب بسبب نقدها الحاد للاتحاد السوفيتي. وقام أيضا بترجمة بعض أعمال الروائي الروسي إيفان تورغنيف (1818-1883) وكتب عن فلسفة وحياة الكاتب والمصلح الاجتماعي ليو تولستوي (1828-1910) وكتابات أخرى عن تاريخ الفكر والثقافة الروسية.

وكان أول كتاب نشره عام 1939 عن حياة كارل ماركس، وتعرّفه على تراث اثنين من كبار المفكرين الثوريين الروس هما ألكسندر هيرزن (1812-1870) الذي تزعم تيار الفلاحين الشعبي، والماركسي الشهير جورجي بليخانوف (1856-1918) وشكل ذلك أساسا مهما للاطلاع على الاتجاهات الفكرية في روسيا عند زيارته الاتحاد السوفيتي والتقرب الى الكتاب والمفكرين المعارضين للسلطة السوفيتية والدفاع عنهم ودعمهم.

و كان موقف برلين من ماركس معقدا حيث جهد على أن يقدم تحليلا فلسفيا واجتماعيا في سياقه التاريخي يتضمن اعجابا بالماركسية كونها استمرت حية ومؤثرة ومن الضروري فهمها كأساس لتقييم الفكر السياسي والحركات الاجتماعية التي شهدها القرن العشرون. وقد حاول برلين أن يقدم نفسه كمحلل فلسفي نقدي لماركس، وبشكل خاص البيئة الفكرية والاجتماعية التي تطورت فيها الماركسية،    وبذلك اختلف عن مقاربة الفيلسوف النمساوي البريطاني كارل بوبر (1902-1994) الذي كان رافضا كليا للماركسية. ويرى البعض أن نقد أشعيا الفلسفي لماركس قد أسهم في ظهور تيارات ماركسية أوروبية تعاملت مع التراث الماركسي الكلاسيكي بشكل انتقائي.

ويلاحظ على برلين تنوع اهتماماته الفكرية، ومنها نقد حركة التنوير الأوروبية وخاصة فكرة وجود غاية مثالية واحدة للبشرية، وأيضا في دفاعه عن تعددية القيم التي تتصارع بهدف الوصول الى الحقيقة حتى وإن تعارض بعضها مع مبدأ العدالة الاجتماعية. وهنا يختلف أيضا مع المفهوم الماركسي للحرية الذي كان حاضرا في أعماله، حيث يرى ماركس أن الحرية الحقيقية تتحقق عندما يتحرر الإنسان من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي، ويصبح قادرا على التحكم في ظروف حياته لان الحرية ليست مجرد مسألة فردية، بل مرتبطة بالبنية الاجتماعية والاقتصادية.

 لقد تعددت اهتمامات أشعيا الفكرية والفلسفية الا أن ما يربطها هو سعيه لتقديم رؤية فكرية ليبرالية تتصدى للماركسية وبذلك أصبح قنفذا أكثر منه ثعلبا متعدد الاهتمامات.

عرض مقالات: