تنهض غالبية نظريات علم اجتماع الفنون على فكرة رئيسة، مفادها بأن "صفة فن لا تكون محايدة أبداً". وطوال قرن كامل حاول منظرو الماركسية التأكيد أن الفن لا يقرأ خارج سياقه، لأنه منتج فني ضمن بنية لها شروطها الاجتماعية والجمالية. في حين ركز علم الاجتماع على الطبيعة الاجتماعية للفن، ففلاسفة الجمال اهتموا بالحديث عن أعمال جمالية موجودة لذاتها وبذاتها.

يستعيد كتاب "ديالكتيك الفن" للناقد الأيرلندي جون مولينو الأسئلة التي شغلت نقاد القرن الـ20 حول تطور مفهوم الالتزام الفني، ويطرح أسئلة تبدو بدهية حول معنى الفن، مؤكداً طبيعته المقاومة لصور التسليع، فالفن برأيه ضرورة حياتية. يعد جون مولينو (1948-2022) أحد أبرز نقاد الفن خلال نصف القرن الأخير، وهو ينتمي إلى جيل المنظرين الذين أبرزت انتفاضة 1968 الطلابية في فرنسا قدراتهم، وعمل محاضراً في كلية الفنون والتصميم في بورتسموث، وعاش حياته عضواً بارزاً في حزب العمال البريطاني قبل تقاعده في أيرلندا.

ألف مولينو كتباً عدة من أبرزها "لينين في القرن الـ21"، وتواصلت مسيرته النضالية، فانخرط في الحركات المناهضة للحرب على العراق في 2003. واعتقل في يناير (كانون الثاني) 2009، في مسيرة شارك في تنظيمها ضد العدوان الإسرائيلي على غزة. ترجم الكتاب إلى العربية رسام الكاريكاتير المصري أشرف عمر، وصدر عن دار ليون للنشر في القاهرة، والمترجم حفيد رائد تأريخ الفن في مصر محمد صدقي الجباخنجي (1910 -1982). واتسمت الترجمة بسلاسة المحتوى وحرص المترجم على تزويدها بهوامش أسهمت في تبسيط المحتوى، والحفاظ على الطبيعة النقدية للكتاب.

"مطبخ أمي"

يسرد مولينو علاقته بالفن التشكيلي، منذ أن اهتمت أمه بتعليق لوحات رسمها في طفولته على جدران المطبخ، إلى جانب تعلقه برسوم فنانة شابة سكنت غرفة في بيت العائلة، ملأتها بالمناظر الطبيعية. لاحقاً توسعت علاقة مولينو بالفن بعد أن كتب مقالة نقدية نال عنها جائزة، تمثلت برحلة إلى روما وفلورنسا عام 1965، وهناك شاهد الأعمال الفنية التي شعر معها أن الفن سيكون طريقه إلى الأبد.

أوقف انخراطه في النضال الماركسي خلال السبعينيات تطوير هذا الاهتمام لديه، لكنه تمكن بعدها من نشر مجموعة من المقالات عكست تأثره بأفكار ليون تروتسكي (1879-1940)، التي قاوم بها أفكار ستالين حول الواقعية في الفن، ودافع فيها عن حرية الفن في ظل الديكتاتوريات، مؤكداً أن الفن لا يحاكم إلا عبر قوانين الفن. ومعروف أن تروتسكي أسهم في كتابة بيان "من أجل فن ثوري" مع السرياليين أندريه بريتون (1896- 1966)، ودييغو ريفيرا (1886-1957).

ضد التسليع

بفضل تلك المقالات التي عملت على مواجهة الطابع "التسليعي" للفن، أصبح مولينو معروفاً في أوساط النقاد، وأثنى جون برجر (1926-2017) على بعض مقالاته، ونظر بعضهم إليه كتلميذ مخلص لبرجر، وهو أكبر إطراء حصل عليه، قبل أن يصبح محاضراً في كلية التصميم والفنون - جامعة بورتسموث، إلى أن تقاعد وتفرغ للعمل الحزبي. ينشغل الكتاب بقضايا تقع ضمن تاريخ الفن، لكنه يتخطى مهمة التأريخ إلى التنظير، ومواجهة التنميط الأيديولوجي في الوقت  نفسه.

ويطرح أسئلة حول حركة الفن المعاصر ترتبط بما يسمى "ديمقراطية الفن والوسائط"، وما ترتب على خفوت الأيديولوجيا من آثار انعكست في طبيعة ما ينتج اليوم من أعمال. يؤمن مولينو أن الأعمال الفنية لم تكن / ولن تكون محركاً لتغيرات اجتماعية أو ثورية كبيرة، لأن التغيير مهمة نضالية يؤديها المناضلون. وبحسبه فإن ما يجعل الفن مهماً، يرتبط بقدرته على صياغة الوعي الاجتماعي في الحقبة التاريخية التي يمثلها. وتزداد قيمته بقدرته على تخطي تلك الحقبة، بحيث يسهم في تطوير الشخصية الإنسانية. يوضح مولينو أن لوحة غرنيكا لبابلو بيكاسو (1881-1973) لم تسهم في وقف الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، كما لم تمنع انتصار الجنرال فرانكو (1892-1975)، بيد أن ما فعلته أنها رسخت صورة عن أهوال الحرب لا تزال ماثلة إلى اليوم. وبالتالي اكتسبت اللوحة قيمة رمزية تخطت زمنها، وأصبحت جزءاً من المخزون الرمزي.

تأسيساً على الالتزام النضالي، يتهم مؤلف الكتاب الرأسمالية خلال حقبة امتدت لثلاثة قرون، بتدمير أي إبداع، وذلك على رغم حديث أنصارها عن حماية الصناعات الإبداعية ودعمها. يرى مولينو أن حديث الرأسمالية عن تشجيع الإبداع لا يختلف عن التمويه التضليلي الذي تمارسه الشركات والحكومات التي تلوث كوكب الأرض، عبر حديثها المتواصل عن حماية البيئة. ويرى أن الفن في المجتمعات الرأسمالية قد يمثل قيماً إيجابية بالفعل، لكنه يعاني شتى أشكال الحصار، لا سيما عبر تقليل الموازنات أو الرقابة والقمع والاستبداد.

يستعيد الكتاب التراث الماركسي عند التطرق إلى الاغتراب الذي يسببه النظام الرأسمالي، أو الآلة البيروقراطية للدولة الحديثة، غير أن هذا الاغتراب يواجه أشكالاً متنوعة من المقاومة. يرى مولينو في الفن تصنيفاً اجتماعياً يمضي في علاقة توتر وتحد لنمو العمل المأجور المغترب مع صعود الرأسمالية، وما يميزه عن أي عمل بشري آخر كونه يجسد معنى ما، والدمج بين الشكل والمضمون، يظل سمة مميزة لما نسميه "فناً"، ويشكل هدفاً يسعى إليه الفنانون باستمرار. وعلى هذا الأساس تقيم أعمالهم، وبالتالي يمكن نقد أي عمل يفشل في تحقيق هذا الدمج الضروري بين الشكل والمضمون.

من الناحية السياسية يشدد مولينو على وجود إمكانية أو قاعدة موضوعية لتحالف محتمل بين اليسار والفن، بما يضمن النضال ضد المفهوم الذي تروج له الرأسمالية بأن الفن غير سياسي بطبيعته. صحيح أن كل الفنانين ليسوا يساريين، لكن الاتجاه الغالب في الفن على مدى قرنين ظل يسارياً. يكشف الكتاب عن الطبيعة الديالكتية التي تزامنت مع التطور الرأسمالي، ورافقته في صورة من صور التفاعل أو المقاومة أيضاً.

ظهور العبقرية

على رغم بداهة الأسئلة التي يطرحها مولينو حول ماهية الفن ووظيفته، فهو يأتي بإجوبة فريدة تشتبك مع الرؤى التي طرحها مؤرخو الفن، وأبرزهم آرنست هانز غومبريتش (1909 -2001) في كتابه الشهير "قصة الفن" حين قال: "ليس هناك حقاً شيء يدعى الفن، ولكن هناك فقط فنانون". يؤكد مولينو أن كلمة "فن" لم تكن موجودة قبل الحقبة البورجوازية، ولم يظهر المفهوم الحديث للفن إلا خلال عصر النهضة، بالتزامن مع اكتشاف مفهوم العبقرية، والعبقرية هي الشخصية التي تتفوق على التقاليد وتتخطى النظريات والقواعد، وقد تجسدت عملياً في مايكل أنجلو (1475-1564).

في تلك الحقبة تحددت السمات القيمية المهيمنة في الفن الباروكي، من خلال الشغف بالأعمال الدينية وفخامة الأعمال الدنيوية، إلى أن جاءت الحداثة وأضفت على الفن طابعاً مدنياً بعد تحرره من سلطة الكنيسة. يثير الكتاب نقاشاً مطولاً حول موقف اليسار من الحداثة، لكن مولينو ينحاز إلى رؤية يورغن هابرماس في النظر إلى الحداثة كمشروع لم يكتمل بعد، وما زال في طور الاكتمال، ويعارض الخطابات كافة التي تشير إلى انهيار السرديات الكبرى وتراجع الأيديولوجيا.

يجادل مولينو الرأي في أن كل تيار فني بدأ في صورة تمرد، حاولت الرأسمالية احتواءه بلا هوادة أو انقطاع، لذلك ينتقد بقوة تحول الفن إلى دمية في يد أصحاب الثروات. ويشير إلى تحولات جرت في المسار الفني تعزز هذا التصور، فالتجريدية قدمت نفسها في أعقاب الحرب العالمية الثانية على أنها الرسم الأميركي في مواجهة التراث الأوروبي، وأن الثقافة الشعبية التي كانت مقيتة للأجيال السابقة أضحت ملهمة، وهي  الآن تضفي طابعاً ديمقراطياً على الممارسة الفنية، استجابة لصعود الديمقراطية السياسية. وانعكس هذا التحول على صعيد الأدوات والألوان، بحيث تجسدت التطلعات الديمقراطية في ما يعرف بـ"الفن الخارجي".

يناقش الكتاب فكرة أن الحكم على الفن، ظل طوال الوقت عملية اجتماعية تجري عبر المؤسسات والأفراد، لكنها ترتبط بالمتغيرات التي تخلقها السوق، وتخضع بالتالي لاعتبارات ذاتية وموضوعية، وتضع في اعتبارها قوانين الحدس الذاتي أو العاطفة ثم المعرفة والخبرة الجمالية، استناداً إلى ما يسمى بـ"العين الجيدة".

عطفاً على ذلك، هناك معايير المهارة والجمال والقدرة على المحاكاة والسمو بالفكرة والأصالة والنقاء والاستقلال. يؤكد الكاتب أن هذه المعايير لا يمكن استعمالها بصورة ميكانيكية وكأنها مسطرة قياس، فهي طريقة للتفكير تتفحص طرق التقييم. يعتقد مولينو إجمالاً بأن الفن يواصل سعيه إلى الحرية البشرية ويكافح من أجمل تعميمها، وإن لم يكن دائماً في الجبهة الأمامية، فإنه يبقى حليفاً مهماً، ونبعاً أساسياً للإثراء الروحي، وأنه ضرورة من ضرورات الحياة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"اندبندنت عربية" – 24 تموز 2025

عرض مقالات: