ساحة المعركة مكان قبيح، ممتلئ بالضجيج والغبار، حيث تُكتَب لغة الدماء على الجدران، إنها مكان لشباب غالبيتهم خائفون، ويدفعهم الخوف لإفراز الأدرينالين الكافي ليقْتُلوا أو ليُقتَلوا. وإنْ عجزوا عن إفراز ما يكفي من الأدرينالين، يلجؤون إلى “الكبتاغون” (مزيج من الأمفيتامين والثيوفيلين) أو أي مخدّر آخر لتبليد قلقهم ورعبهم.
البنادق لا يُطلقها أبناء الطبقة العاملة الشباب المرسَلون إلى الحرب بدافع الواجب أو الوطنية فحسب؛ بل تُطلَق في الغالب بدافع الخوف.
لكن حين تصبح الحرب معتمدة على الآلة في معظمها، مع طائرات مسيّرة وصواريخ تُطلَق من مسافات بعيدة، يصبح الذين يضغطون على الأزرار بمعزل عن الواقع، وكأنهم مهندسو آلة الموت بدل أن يكونوا أداتها. ينظرون إلى شاشات تلفاز لا تُريهم بشراً، بل بصمات حرارية وأسماء أهداف، كألعاب فيديو خطيرة تتحول على الجانب الآخر إلى ضجيج وغبار ودماء، كما في أي ساحة حرب عادية.
لم تعد حروب القرن الحادي والعشرين كسابقاتها، حيث كانت الجبهة هي نقطة التماس الرئيسية بين الجيوش المتقاتلة. الآن، حتى لو وُجدت جبهة — كما في الحرب بين أوكرانيا وروسيا — ثمة ضربات خلفية عبر القصف الجوي، فالصواريخ التي لا تُكتشف ولا تُوقَف يمكنها اختراق عمق أراضي الطرفين.
التقنيات الدفاعية القديمة، خصوصاً إذا تحولت الحرب إلى تبادل نووي، لم تعد ذات قيمة. كتيبات الخمسينيات من الولايات المتحدة التي حثّت الطلاب على الاختباء تحت مقاعدهم أثناء هجوم نووي بدت سخيفة آنذاك، ومثيرة للسخرية الآن. لا سبيل للوقاية من هكذا ضربات مروّعة، سواء أكانت نووية أم تقليدية — كما رأينا في غزّة خلال السنوات الأخيرة.
مات عشرات الآلاف من الفلسطينيين تحت قنابل أميركية الصنع زِنة 500 رطل، أُسقِطت من طائرات إسرائيلية وحوّلت أحياء بأكملها إلى ركام. وفي الفلوجة والرمادي بالعراق، أسقطت الولايات المتحدة ليس فقط قنابل ضخمة، بل قنابل مطعّمة باليورانيوم المنضب، مما يجعل التمييز بين “النووي” و”التقليدي” مجرد لعبة كلامية لأطفال ولدوا بتشوهات خلقية كبيرة بعد سنوات من الانفجارات.
تتغذى الحرب على ثقافات الألفة واللياقة. أن تضطر حكومة في القرن الحادي والعشرين لفرض انقطاع التيار الكهربائي — بينما أنظمة GPS والرادارات المتطورة تستطيع الرؤية عبر ظلام الليل — يخبرنا الكثير عن سبب قطع الكهرباء. لا تُقطَع لإنقاذ المدنيين، بل لفرض شعور بأنهم في حرب، وزرع ثقافة الخوف في قلوبهم. هذه هي الحرب حين تُنقل إلى الجبهة الداخلية، حيث يُحشَد السكان لتبني ثقافة الكراهية التي تغذيها الحرب. تأسست “الحرب على الإرهاب” بقيادة الولايات المتحدة على هذه الصناعة للخوف.
كان على كل الأميركيين أن يخشوا أن يصبحوا هدفاً، رغم سخف فكرة أن “تنظيم القاعدة” سيضرب بلدة صغيرة في “كانساس”.
هل وحدّت الحروب شعباً يوماً ما؟ هل شعورهم بأنهم محاصرون جعلهم يعتمدون على بعضهم البعض؟ دراسات الجبهات الداخلية في الحروب الطويلة تُظهر تفاقم المنافسة الشرسة على الموارد الشحيحة وخوف الناس من جيرانهم بقدر تفاقم ما يمكن تسميته بـ “الوحدة الوطنية”. لهذا نرى في الحروب كماً هائلاً من الدعاية عن “الإرادة الوطنية” أو “المشاعر القومية”، وكأنها حقائق بديهية تستقى من كلمات مذيع تلفزيوني ذي أجر مرتفع.
من يستطيع قراءة “المزاج الوطني” الحقيقي في زمن الصراع، حين يجبَر الناس على كتم آرائهم، أو حين لا يعرف معظمهم حتى تفاصيل الحرب؟ في الهند مثلًا، نسبة مشاهدي الأخبار الإنجليزية ضئيلة جداً، لذا فإن مزاج المذيعين ليس مؤشراً على “المزاج الوطني”. يحتاج الأمر جهداً لنسف ثقافات الألفة واللياقة التي تحكم حياة معظم الناس. هذه مهمة الدعاية.
تُصنع دعاية الحرب لإنتاج الكراهية، كما نرى في إعلام طرفي حرب السودان، أو في الشوفينية الصارخة في الإعلام الغربي تجاه روسيا.
عندما ذهبت إلى العراق لأول مرة، قال لي مراسل حرب مخضرم شيئاً مثيراً: “هناك أشياء قليلة فقط يمكن تعلّمها في الجبهة الأمامية اليوم.
إذا التقى المراسل بالمقاتلين — وهذا نادر لأن قادتهم “يحمونهم” من الإعلام — فقد يقيس معنوياتهم. وقد يكشف — لو حالفه الحظ — الأكاذيب التي يروجها الساسة عن ساحة المعركة”.
كانت هذه نصيحة جيدة. في الساحل الأفريقي، اتضح لي بعد لقاء بعض مقاتلي “القاعدة” في المناطق الحدودية بين نيجيريا وليبيا أنهم مهربو سجائر وأسلحة أكثر من كونهم إرهابيين أيديولوجيين، ولم أتعلم أكثر من ذلك عن تلك الصراعات التي مزقت هذه المنطقة من أفريقيا لعقد من الزمن على الأقل.
تُستقى حكمة المعركة الحقيقية من فنادق الخمس نجوم حيث تُعقد صفقات السلاح، ومن الغرف المغلقة حيث تتفاوض النخب عبر الحدود لتسوية الأمور لمصلحتها. منصات التواصل والإعلام الرأسمالي تهيّج المشاهدين بصور وفيديوهات تنتشر كالنار في الهشيم لكن لا يستطيع أحد تأكيدها. أثناء التصعيد الأخير بين الهند وباكستان، انتشرت على منصات التواصل إشاعات ألهبت المشاعر، وذهب مذيعو القنوات الرأسمالية إلى نشر أخبار كاذبة لدرجة أنهم اضطروا لاحقاً للاعتذار. هذه المبالغات والأكاذيب لا تعلّم المواطنين شيئاً، ولا تجري نقاشاً عاقلاً عما يحدث، بل تُنتج ثقافة عدائية لا تتبدد بسهولة حتى بعد توقف إطلاق النار. تأثيرها يتسرب عميقا في روح الثقافة.
تقوم قواعد لعبة “الحرب على الإرهاب” الأميركية — التي تبنتها الآن حكومات أخرى بسهولة — على فكرة أن أي هجوم إرهابي يمكن مواجهته برفض التحقيق فيه، وبدلاً من ذلك تُشن الحرب على دولة “ترعى الإرهابيين”، و”ضربات جراحية” على “معسكرات إرهابية”، وتجاهل كامل للقانون الدولي. تلك القواعد استُخدمت لتدمير دول ومجتمعات من آسيا الوسطى إلى شمال أفريقيا، من أفغانستان إلى العراق، من ليبيا إلى سوريا.
الثمن التاريخي الذي دفعته هذه الدول لاغتيال زعماء الجماعات الإرهابية كان فادحاً. ورغم قتلهم، لا تختفي هذه الجماعات بل تتحول إلى كيانات أشد فتكاً، بينما يخمد السبب الجذري لظهورها مؤقتاً، فقط ليعود لاحقاً في شكل أكثر بشاعة. قبل سنوات، قال خالد مشعل من حماس في الدوحة: “إذا ظن الغرب أن حماس قوة خطيرة، فهم لا يعرفون شيئاً عما يُغرَس بعيداً عن حماس بين الشباب الذين يعيشون في إحباط يجعلهم لا يرون في حرب التحرير أي معنى”. تحت الأنقاض، تنمو المرارة والكراهية، فتدور دوامة عنف لا يمكن وقفها.
تنمو العدمية حين لا يوجد حوار سياسي، وهذا بالضبط ما نراه اليوم في هجمات الإرهاب الوحشية حول العالم. الحل ليس قصفاً قصير الأجل، بل هو حلول سياسية طويلة الأمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب وباحث يساري من الهند، مدير معهد ترايكونتيننتال للبحوث الاجتماعية Tricontinental: Institute for Social Research؛ وهو معهد أبحاث مشترك في بوينس آيرس وجوهانيسبرغ ونيودلهي وساوباولو.
منصة "تقدم" – 13 أيار 2025