يتوافق بحثي هذا، بشكل أساسي، مع الاستنتاجات التي توصل إليها البروفيسور كيفن أندرسون في كتابه ماركس ومجتمعات الأطراف ( ترجمة هشام روحانا 2010) وحججي حول ماركس وماورر تكملها وتوسعها.
في كتاب (ماركس ومجتمعات الأطراف)، يوضح المؤلف، من خلال تحليل الأعمال الضخمة والمخطوطات والمقالات الصحفية ودفاتر المقتطفات التي كتبها ماركس، أن ماركس قد غير باستمرار تصوره حول المجتمعات غير الرأسمالية وما قبل الرأسمالية بدءاً من (الأيديولوجية الألمانية) و(البيان الشيوعي) وصولاً إلى مسودات الرسالة إلى فيرا زاسوايتج ومقدمة الطبعة الروسية من (البيان الشيوعي) في آخر مراحل حياته. لقد تغير رأي ماركس حول المجتمعات غير الرأسمالية وما قبل الرأسمالية من نموذج تطور أحادي الخط يتم بموجبه تعميم العمليات التاريخية لتحول أوروبا الغربية الحديثة على أنها صالحة عالميا، إلى نموذج تطور متعدد يتم بموجبه اعتراف مؤكد بوجود عمليات تاريخية مختلفة عن تلك الموجودة في أوروبا الغربية.
لقد فصل ماركس نفسه عن وجهة نظره القديمة حول الاستعمار البريطاني التي اعترف فيها بالدور الإيجابي الذي لعبه الاستعمار البريطاني في تحديث البلدان المستعمرة رغم تأكيده المتواصل على الدمار والعنف الذي ألحقه الاستعمار الغربي بالمجتمعات غير الرأسمالية. ومع هذا التغيير، حدث تغيير جذري في تصوره حول المجتمعات الريفية الموجودة في معظم المجتمعات غير الغربية. فلو راجعنا مقالاته التي نشرها في صحيفة التريبيون النيويوركية عن الهند عام 1853، نجده ينظر إلى المجتمعات الريفية بشكل سلبي، على أنها تسبب الركود المتخلف و"الاستبداد الشرقي" في المجتمعات غير الغربية، بينما نجده في أواخر 1870، ينظر إليها باعتبارها أساساً لمقاومة العدوان الرأسمالي وحتى كطليعة للقوى العالمية للتغلب على النظام الرأسمالي العالمي.
وكما ذكرنا آنفاً، فقد ذكر ماركس في سلسلة مقالات صحيفة التريبيون عن الهند في عام 1853 أن الحكم البريطاني للهند سيلعب دوراً إيجابياً في تحديث الهند، مهما كان عنيفاً. لكنه بدأ في مراجعة هذا الرأي ذا النزعة الأوروبية المركزية عندما كتب في عام 1857 سلسلة أخرى من المقالات في نفس الصحيفة عن الهند والصين تتعلق بتمرد السباهي وتمرد التايبينغ.
فقد أيد ماركس، جهاراً، في صحيفة التريبيون قضية الشعب الصيني ضد العدوان البريطاني. في نفس العام، بدأ ماركس في كتابة (الغروندريسه)، وهي أول محاولة له لصياغة نظام لنقد الاقتصاد السياسي، وفي الوقت نفسه صياغة فكرة الخطوط المتعددة للتطور التاريخي.
لقد شارك ماركس طوال ستينيات القرن التاسع عشر، في النضال ضد التمييز القومي والعرقي وضد الاستعمار.
وهذا ما أوصله الى الاقتناع بأن حركات الطبقة العاملة في البلدان المتطورة لم تكن قادرة على كسب الزخم في نضالها ضد الرأسمالية طالما أنها تميز ضد الأقليات العرقية التي تعيش في وطنها مثل المهاجرين الأيرلنديين والأمريكيين من أصل أفريقي. وقد تكثفت هذه القناعة بشكل متزايد فنرى تأييده لحركة تحرير العبيد خلال الحرب الأهلية، ودعم الثورة البولندية عام 1863 وحركة الاستقلال الأيرلندية في النصف الأخير من عقد 1860.
ففي عام 1864، تشكلت شبكة دولية من الطبقة العاملة لدعم الاتحاد خلال الحرب الأهلية في الولايات المتحدة وكذلك الثورة البولندية عام 1863.
وأدى ذلك في النهاية إلى إنشاء عصبة الشيوعيين. إن هذا الحقائق توضح مدى عمق تشابك القضايا المتعلقة بالطبقة والقومية والعرق في السياق التاريخي وكذلك في التطور النظري لماركس.
في الطبعة الفرنسية من (رأس المال) Le Capital" (1872-75)، ذكر ماركس صراحة أن الانتقال التاريخي من نمط الإنتاج الإقطاعي إلى النمط الرأسمالي، الموصوف في القسم الخاص بـ "التراكم البدائي" لا يمكن أن ينطبق على أي مناطق أخرى غير دول أوروبا الغربية.
«في التعامل مع نشأة الإنتاج الرأسمالي، ذكرت أنها تقوم على "الفصل التام للمُنتِج عن وسائل الإنتاج" (ص 315، العمود 1، الطبعة الفرنسية لرأس المال) وأن "أساس كل هذا التطور هو سلب المُنتِج الزراعي. وحتى الآن ، لم يتم تحقيق ذلك بطريقة جذرية في أي مكان باستثناء إنجلترا، وبالتالي، فإن هذه البلاد سوف تلعب بالضرورة الدور القيادي في مخططنا.
ولكن جميع دول أوروبا الغربية الأخرى تمر بنفس العملية» (المصدر السابق ، العمود الثاني).
من خلال حصر صلاحية رأس المال في أوروبا الغربية، واجه ماركس مهمة جديدة تتمثل في وضع تصور لمسارات التطور التاريخي في المجتمعات غير الأوروبية والإمكانيات التي تحويها هذا المسارات للقضاء على الرأسمالية.
إن ما اهتم به ماركس في دفاتر المقتطفات هو التأكيد على أن الأشكال الاجتماعية المشاعية في المجتمعات غير الأوروبية خضعت لتطور تاريخي، ونتيجة لذلك، يمكنها أن تلعب دورا إيجابيا كمعقل للمقاومة ضد الاستعمار الغربي. ومن هذا المنظور، تمكن ماركس في النهاية من التغلب على أفكاره الأوروبية المركزية السابقة مثل تلك المتعلقة بتقدمية الاستعمار الأوروبي والتأثير الحضاري للرأسمالية.