خلال الفترة التي تلت انتهاء الحرب العالمية الثانية طرح عدد من الاستراتيجيين الامريكيين استراتيجية الانتقام الشامل ضد الاتحاد السوفياتي ودعو الى اعتماد "سياسة حافة الهاوية" المتطرفة من خلال تطويق الاتحاد السوفياتي بالاحلاف والكتل المناوئة. وقد استندوا في ذلك الى نظرية المجمع الصناعي – العسكري (The Industrial Military Complex)، التي تؤكد على وجود فئة من العسكريين والصناعيين تعمل من أجل مصالح مشتركة تتمثل في ابقاء التوتر وزيادة الانتاج الحربي. وكثيرا ما ارتبطت السياسة الخارجية الامريكية المتشددة بهذه النظرية من عهد الرئيس الامريكي دوايت ايزنهاور Dwight Eisenhower ووزير خارجيته جون فوستر دالاس John Foster Dulles). فقد برزت علاقات استراتيجية بين (البنتاغون) وعدد من الشركات الصناعية الكبرى، هذا اضافة الى وجود ارتباط وظيفي بين قطاعات مدنية وقطاع الصناعات الحربية، منها على سبيل المثال لا الحصر عمل الجامعات في برامج تطوير الاسلحة بيولوجيا وكيمياويا حتى اطلق عليه بعض الباحثين تسمية "المجمع العسكري-الصناعي- الاكاديمي".
ومن جهة أخرى فإن التطور التاريخي للمذهب العسكري الامريكي، خلال هذه المرحلة، شهد عدة أطوار:
أ- في الخمسينيات من القرن العشرين. بداية لابد من الاشارة الى أن الطريقة التي انتهت بها الحرب العالمية الثانية أدت إلى بروز الولايات المتحدة كقوة رأسمالية عالمية من جهة، و الاتحاد السوفييتي من جهة أخرى، هذه البنية الجديدة للنظام الدولي عرفت ظهور مصطلح "القوى العظمى" المتمثلة في القطبين اعلاه بدلا من المصطلح الذي كان سائدا من قبل و هو مصطلح "القوى الكبرى" كتعبير عن طبيعة القوى الدولية في هذه المرحلة. و قد شكلت هاتان القوتان طرفي الصراع الآيديولوجي الذي ميّز فترة "الحرب الباردة".
ما يمكن قوله عن هذه الفترة، وبقدر تعلق المر بموضوعنا، هو أن الولايات المتحدة قد "انفتحت" بشكل كبير على العالم الخارجي وصارت لها مصالح في أغلب مناطق العالم، كما برزت أهميتها خاصة بعد استعراض قوتها النووية عندما قصف سلاحها الجوي مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين، وبدأت تظهر "النزعة العالمية" في سياسة الولايات المتحدة مع بدايات "الحرب الباردة" وذلك عندما قامت بتقديم المساعدات لتركيا واليونان في عام 1947، وجاء ذلك من منطلق التغييرات التي أحدثها هاري ترومان Harry Truman الرئيس الامريكي الثالث والثلاثين في السياسة الخارجية الأمريكية والتي تناولت فكرة "الحاجة إلى حماية جميع الأحرار" في كل مكان، ثم أصبح هذا التفسير الآيديولوجي للمساعدات الأمريكية يعرف بـ (مبدأ ترومان).
كان المذهب العسكري الأمريكي، خلال هذا الطور، يعتمد على التهديد باشعال حرب عالمية نووية من أجل تحقيق أهداف أمريكا الاستراتيجية السياسية والعسكرية. ففي عام 1950، أعلنت إدارة الرئيس ترومان عن أول استراتيجية نووية أمريكية وذلك في مذكرة مجلس الأمن القومي رقم (68)، حددت بموجبها "سياسة الاحتواء" كقاعدة للدفاع القومي، وقد عبر عن ذلك جورج كينان George Kennan عام 1947 وذلك في دراسة نشرها في مجلة Foreign Affairs تحت اسم (X) ثم احتضنتها ونفذتها حكومة الرئيس ترومان. واشار كينان الى ان "المبدأ الأساسي لكل سياسة أمريكية تجاه الاتحاد السوفييتي على المدى البعيد يجب أن ترتكز على احتواء الاتجاهات التوسعية السوفييتية، و يكون ذلك بحذر وصرامة".
عندما صيغت إستراتيجية الاحتواء، اعترضتها انتقادات جاءت من ثلاث مدارس فكرية مختلفة:
- الاولى: من الواقعيين الذين مثلهم ولتر ليبمان حيث كان يرى أن الاحتواء قد يفضي إلى إفراط نفسي وجيوسياسي واستنزاف موارد أمريكا.
- الثانية: وكان لسان حالها رئيس وزراء بريطانيا خلال الفترة 1940 - 1945 وينستون تشرتشل الذي كان يعتقد أن مركز الغرب لن يعود أبدا إلى وضعه الأول من القوة عند بداية "الحرب الباردة"، ولن يدرِك موقفه التفاوضي النسبي إلا التدهور.
- الثالثة، ويمثلها هنري والس الذي جحد على أمريكا "الحق الأخلاقي" في الاضطلاع بسياسة الاحتواء في المقام الأول، فبعد أن أقر بوجود تكافؤ أخلاقي جوهري بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، مجادلا أن مدار نفوذ الأول في قلب أوروبا مشروع، وأن مقاومة أمريكا له لن ينتج إلا التوتر، وهكذا جاءت دعوته إلى إنهاء "الحرب الباردة" بقرار أمريكي منفرد.
وأجرت الإدارات اللاحقة تعديلات على تنفيذ تلك السياسة، ولكنها احتفظت بجوهرها المتمثل في وقف "المد الشيوعي" بقوات تقليدية ونووية. وقد اعتمد ترومان على ترسانة نووية متطورة، لردع "التوسع السوفيتي" وتعزيز القوات التقليدية لحماية مبادرات السياسة الخارجية الأمريكية الأخرى.
وفي عام 1953، ألحق الرئيس الامريكي الرابع والثلاثين دوايت آيزنهاور Dwight Eisenhower أسلحة تقليدية بالقوات النووية، بسبب التكاليف المالية الباهظة في حالة الإنفاق على قوات تقليدية ونووية في آن واحد، وأطلق اسم "الردع" على سياسته التي أسماها "نظرة جديدة". ولكن سرعان ما أدرك النقاد نقاط ضعف هذه الاستراتيجية، فقد أشار وزير الخارجية الامريكية الأسبق هنري كيسنج الذي كان أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة هارفارد في ذلك الوقت إلى ضيق أفق تلك الاستراتيجية، والى أن عدم امتلاك الولايات المتحدة لقوات تقليدية كافية لمواجهة "المدّ الشيوعي" يجعل القادة العسكريين والسياسيين أمام موقفين لا ثالث لهما: إما التدمير النووي أو السلبية التامة، بصرف النظر عن مستوى الاعتداءات السوفيتية، أو النتائج الأخلاقية للحرب الشاملة. ومن الجدير بالذكر أنه وخلال هذه الفترة ظهرت "إستراتيجية الرد الشامل"، وعُرفت أيضا بـ "نظرية الرد الشامل"، وهي نظرية عسكرية وإستراتيجية نووية، أي تستعملها الدولة لتنتقم بشكل عظيم من قوة هاجمتها. وهذه النظرية بلورها جون فوستر دلاس وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية في الخمسينات من القرن العشرين والتي اعتقدَ بأنها ستكون بمثابة التصحيح لكل الأخطاء ونقاط الضعف التي أسفر عنها تطبيق "سياسة الاحتواء".
ب- في الستينات: ظهرت في أمريكا استراتيجية جديدة هي "استراتيجية الرد المرن ". تعني كلمة "مرن" Flexibale" وجود العديد من الآراء "Mulitple opinions" المتعلقة بأزمة صاعدة، ووجود مجموعة من الآراء حول أزمة معينة يقلل من احتمالية قيام الحرب. والفكرة الرئيسية للرد المرن هي زيادة القدرة على الحد من الرد بالأسلحة النووية، وساهم في وضع هذه الاستراتيجية كل من الرئيس الامريكي الرابع والثلاثين دوايت ايزنهاور ورئيس الأركان حينذاك ماكسويل تايلورMaxwil Tailor.
نشأت هذه النظرية بالمعنى الإستراتيجي للتخلي عن "الرد الانتقامي" واستبداله بشيء مرن وأكثر عرضة للسيطرة، فلا يجب الرد على العدوان بحرب عنيفة تستخدم فيها كل الوسائل حتى الذرية وإنما يجب الرد بطريقة مرنة وبقدرات تتناسب مع ما حدث من عدوان.
وجرى التاكيد على أن تكون هذه الاستراتيجية مرنة وحاسمة في الوقت نفسه، وتلحظ الاستعداد لخوض حرب عالمية نووية، أو تقليدية كبيرة أو صغيرة. وبالتالي فإن الاستراتيجية المذكورة تناولت مجالاً واسعاً من الحروب، كما أنها كانت تسمح بخوض ما يسمى بـ "الحرب المحدودة" مع إستخدام الوسائط النووية، وكانت تتجه، كسابقتها، إلى إحراز السيادة العالمية ومجابهه "الانظمة الشيوعيه" و "الثورات الإقليمية".
ففي عام 1961، قدَّم الرئيس الامريكي الخامس والثلاثون جون كنيدي John Kennedy هذا البديل بإعلانه أن "وضعنا الدفاعي ينبغي أن يتصف بالمرونة والتصميم في آنٍ واحد، ولابد أن يدرك كل معتدٍ من الأعداء المحتملين الذين يفكرون في شن هجوم على أي منطقة من مناطق العالم الحر أن ردنا سوف يكون مناسباً وسريعاً وفعّالاً وبانتقاء شديد". وهذه الاستراتيجية التي أعلن عنها كنيدي كانت تهدف إلى تجنب استراتيجية الانتقام الشامل أحادية الجانب، والهيمنة النووية بانتهاج قدر أكبر من التماثل والمرونة.
وعندما أصبح ليندون جونسون Lyndon Johnson رئيساً للولايات المتحدة (الرئيس السادس والثلاثين) في نوفمبر 1963، كانت "استراتيجية الردّ المرن" تخضع للتجربة في جنوب شرقي آسيا، وخلال مدة رئاسته أظهرت تجربة فيتنام مدى التحديات الناجمة عن خوض حرب تقليدية محدودة ضد عدو غير تقليدي. ولعل من أسباب فوز ريتشارد نيكسون Richard Nixon في الانتخابات، عدم رضا الرأي العام عن مجريات الحرب في فيتنام، فضلاً عن البصمات الواضحة التي وضعها هنري كيسنجر Henry Kissinger ، وما أجراه من تغييرات على السياسة الدفاعية الأمريكية. وتعتبر "سياسة الوفاق" وهو الاسم الذي أُطلق على استراتيجية نيكسون- كيسنجر تنقيحاً آخر لاستراتيجية الاحتواء، حيث جرى التأكيد على انتهاج المسلك الدبلوماسي لإقناع السوفييت بـ "قبول" شرعية الآيديولوجيات الأخرى، وما يكسبه الجميع من فوائد في ظل نظام عالمي يسوده الاستقرار. وتواصلَ هذا الحوار في فترة رئاسة جيمي كارتر Jimmy Carter الذي سعى للتوصل إلى سياسة خارجية أمريكية جديدة تقوم على "قيم أخلاقية رفيعة بعدم التدخل، ورفض استخدام القوة العسكرية"، حيث أعلن عام 1977: "إننا نرغب في تجميد تطوير وإنتاج الأسلحة، وتقليص الأسلحة النووية الاستراتيجية إلى حد كبير".
ج- وفي العام 1971 أعلنت واشنطن عن "إستراتيجية الردع الوقائي Strategy Deterrence Protector ". ومن المعلوم ان هذه النظرية تقوم على أربعة أركان مهمة تتمثل في:
- تهديد الخصم باستخدام القوة ضده إذا ما أقدم على اتخاذ إجراءات تصعيدية.
- إقناع الخصم بعدم استخدام القوة، لأنه سيجابه بقوة ضخمة قادرة على تدميره وتدمير قوته.
- اللجوء إلى إقناع الخصم بمبادرة سلمية قد تعدل من سياسته التصعيدية، مثلما قامت به الدول الكبرى من مبادرات لضبط التسلح في مرحلة "الحرب الباردة".
- اعتماد الصلح مع الخصم بدلا من التصعيد وذلك لتجنب قيام حرب بالوسائل التقليدية أو استعمال السلاح النووي.
وحين صاغت القيادة السياسية - العسكرية الأمريكية، وجهات نظر جديدة أرضتها في مذهبها العسكري، حول طبيعة الحرب وتصنيفها، حيث قسمت الحروب إلى أربعة أنواع، حسب الوسائط التي تُستَدعي للاشتراك ومقاييس التنفيذ وتناسب القوى على ساحة الصراع وهي:
- الحرب النووية الاستراتيجية الشاملة؛
- الحرب النووية المحدودة على مسرح العمليات؛
- الحرب التقليدية الشاملة؛
- الحرب التقليدية المحدودة على مسرح العلميات.
د- لوحظ عند عتبة الثمانينات، انقلاب مفاجيء في الاستراتيجية الأمريكية. فعندما تولى رونالد ريجان الرئاسة خلال الثمانينيات (1981-1989)، عمل على عكس ما كانت تسعى إليه إدارة كارتر من تقليص للأسلحة الاستراتيجية، حيث حصل على موافقة الكونغرس لزيادة المخصصات الدفاعية على مدى ست سنوات، لأغراض التطوير والتدريب وزيادة الرواتب. ولعل الأمر الأكثر طموحاً في ذلك هو برنامج الدرع الدفاعي الصاروخي، أو ما يُطلق عليه: مبادرة الدفاع الاستراتيجي (SDI).
ومن جهة أخرى فإنه وفي عام 1982 تبنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) بصورة رسمية نظرية "العملية أو الموافقة الجوية – البرية Theory OF Operoitions Air-land " وقد تضمنت هذه النظرية وجهة نظر جديدة للقيادة العسكرية الأمريكية حول طبيعة وطرائق خوض الأعمال القتالية.
وأخيراً، ونتيجة تفاعل عدة عوامل لا يتسع المجال هنا للدخول في تفاصيلها، أتت استراتيجية الاحتواء التي تم تتويجها بما سمي في حينه بـ "النهضة العسكرية" في عهد الرئيس الامريكي رونالد ريغان أُكُلها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك المعسكر الاشتراكي في أوائل التسعينيات من القرن العشرين، وبذلك انتهت مواجهة امتدت على مدى خمسة عقود تقريباً بين القوتين العظميين: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي.