رحل الناقد الأدبي والفيلسوف الأميركي فريدريك جيمسون في الثاني والعشرين من شهر أيلول الجاري، عن عمر يناهز التسعين عاماً، لتعلن وفاته نهاية حقبة في نظرية النقد، وتترك فراغاً عميقاً في المشهد الفكري. وقد عانى جيمسون المرض لعدة سنوات، وواجه العديد من المشكلات الصحية المختلفة التي حالت مؤخراً دون ظهوره في الأجواء العامة، إلا أنه واصل الكتابة وإلهام الآخرين، مساهماً في النقاش حول الثقافة والرأسمالية والأيديولوجيا حتى النّفَس الأخير، حيث قضى يوم الأحد الأخير في حياته بمنزله في كيلينغورث بولاية كونيتيكت بالولايات المتحدة الأميركية، وأذاعت ابنته شارلوت نبأ وفاته في بيان من دون أن تذكر السبب بحسب صحيفة نيويورك تايمز.

تعدى تأثير جيمسون الفكري الأوساط الأكاديمية، وعدّه المفكر الراحل إدوارد سعيد رائداً في دراسة الثقافة والإمبريالية والعلاقة بين الإنتاج الثقافي والأوضاع الاقتصادية.

ففي حوار نُشر عام 1969 في “نيويورك تايمز” بعنوان “حديث مع إدوارد سعيد”، أشار سعيد إلى أن كتابات جيمسون أساسية لفهم كيفية عمل الثقافة ضمن أطر السلطة والأيديولوجيا، وأن لديه قدرة فكرية استثنائية على شرح تعقيدات الهويّة والتمثيل في سياق ما بعد الحداثة.

تحدى جيمسون الأسس التي كان يتم فهم الفن والأدب والمجتمع في ضوئها، وسعى في كتاباته إلى فك شيفرة تعقيدات الرأسمالية وتأثيرها الطاغي على الوعي البشري.

وانخرط طوال ستة عقود في دراسة مواضيع متعددة، بينها النظرية الماركسية وما بعد الحداثة وفن العمارة والثقافة الشعبية، مركّزاً على البنى الأيديولوجية التي تكمن خلفها.

ووجّه في تحليله لثقافة ما بعد الحداثة نقداً قاسياً إلى الطرق التي تسلّع بها الرأسمالية المتأخرة الفنون وتشوه وعينا الجمعي.

وكان جيمسون يؤمن بالقوة التحويلية للنقد، وبأن الأدب والفن قادران على تحدي الوضع القائم وإلهام التغيير. وانتقد السطحية وغياب العمق في الثقافة الحديثة التي تعمل على تسويقها في العالم قوى العولمة التي لا تريد للبشر أن يفهموا، بل أن يستهلكوا فقط من دون تفكير، وأن يتم تلقينهم المعلومات المطلوبة عن كل شيء، وتؤكد هذه القوى هذا الأمر وهي تردد: إن عقول البشر وبطونهم مُلك لنا، نحن أصحاب الشركات والمصالح الكبرى ونملؤهما بما نشاء. لكن هذه اللعبة لم تنطلِ على جيمسون، ففي عقر دار الرأسمالية وجّه سهام بحثه النظري لاختراق الثقافة السطحية المعمّمة وتأكيد رؤية الأمور في سياقها التاريخي.

ولد فريدريك جيمسون في الرابع عشر من نيسان عام 1934، في مدينة كليفلاند بولاية أوهايو، ودرس في “جامعة شيكاغو” حيث اطلع على تيارات فكرية مختلفة كالماركسية والبنيوية وما بعد البنيوية، ثم نال لاحقاً شهادة الدكتوراه من “جامعة كاليفورنيا”، بيركلي. وعكف أثناء حياته الأكاديمية على دراسة كتابات كارل ماركس وسيغموند فرويد والمنظّرين الفرنسيين المختلفين خاصة ميشيل فوكو وجاك ديريدا. وألّف أثناء مسيرته الفكرية أكثر من ثلاثين كتاباً وعدداً كبيراً من المقالات. وقد تُرجمت بعض كتبه إلى معظم اللغات وبينها العربية، إلّا أن ترجمته إلى العربية لم ترافقها دراسات محلية تستضيء بأفكاره في السياق العربي وتتناول على وجه الخصوص التغيرات التي طرأت على الثقافات والأديان المحلية العربية نتيجة تأثير العولمة والتحولات المتسارعة في العالم، من ثم لم يُدرس جيمسون عربياً، أي لا توجد قراءة عربية خاصة وعميقة له، وأعتقد أن من محن الترجمة الفكرية إلى العربية هي أن كتب المفكّرين الكبار تصبح بعد أن تُترجم معزولة وحكراً على النخبة. وما يفقد الترجمة قيمتها هي أنها تتم في جو من التبعية الفكرية، ما يمنعها من أن تشكل منطلقاً لدراسة الآخر من منظار الخصوصية المحلية التي تمنح الترجمة الفكرية قيمة جوهرية.

صدر كتاب جيمسون “ما بعد الحداثة: أو المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة” في 1991، وتُرجم إلى العربية. وكما هو واضح من العنوان، يتناول فيه خصائص ثقافة ما بعد الحداثة وعلاقتها بالرأسمالية المتأخرة. ويرى في هذا الكتاب أن ما بعد الحداثة تمثل حقبة ثقافية جديدة تعكس تغيرات جاء بها الطور اللاحق من الرأسمالية. ويشير جيمسون، بانياً على أفكار الفيلسوف الفرنسي جان بودريارد، إلى أنه يصعب التمييز بين الواقع والتمثيل في العالم ما بعد الحداثي، الأمر الذي يقود إلى ثقافة تهيمن عليها الصور والعلامات بدلاً من التجربة المباشرة.

قبل ذلك كان جيمسون قد ألّف كتاباً آخر مهماً صدر عام 1988 بعنوان “أيديولوجيات النظرية” يضم مجموعة مقالات حلّل فيها العلاقة بين النظرية والأيديولوجيا وأكد فيه أن الأطر النظرية لا يمكن أن تكون محايدة، وتتأثر دوماً بالبنى الأيديولوجية ولهذا كان السياق التاريخي مهماً لفِهم التطورات في حقل النظرية.

درَس جيمسون تأثير العولمة المدمّر على الثقافات المحلية، وتحدث عن نزوع فيها إلى فرض التجانس أو التماثل الثقافي، ذلك أن الرأسمالية العالمية تفرض، عن طريق تمددها وانتشارها، مجموعة معايير وقيم ثقافية متماثلة. وتتجلى هذه العملية في نشر ثقافة الاستهلاك، التي تحل فيها العلامات التجارية ووسائل الإعلام العالمية محل العادات والممارسات المحلية. وتقوم الشركات المتعددة الجنسيات ووسائل الإعلام الغربية المهيمنة بخلق سيناريو يهدد الثقافات المحلية بخطر فقدان تميزها واختلافها، ينتج عن هذا ما يسميه جيمسون “غياب العمق” في التعبير الثقافي.

ففي عالم معولم، تُجرّد المنتجات الثقافية من سياقاتها ومعانيها التاريخية، وتتمخض عن ذلك هيمنة ثقافة سطحية. ويؤدي هذا إلى قطع صلة الأفراد بتراثهم الثقافي، وينتقل التركيز من سرديات هادفة ومتأصلة في سياق تاريخي إلى صور عابرة وتجارب مُسلَّعة، الأمر الذي يؤدي إلى شعور بالاغتراب والانفصال بين الأفراد. ومن هنا يؤكد جيمسون ضرورة أن تطور الثقافات المحلية آليات مقاومة للحفاظ على خصوصيتها، أو أن تبدع أشكالا جديدة قائمة على إدماج العناصر المختلفة أو التهجين.

ولعل نقد جيمسون لهندسة عمارة الفنادق الفخمة يرتبط جوهرياً بنقده للأيديولوجيا الرأسمالية التي تعكس قيم الاستهلاك. فالفنادق المترفة، على غرار “الميريديان” و”الشيراتون” و”الفصول الأربعة” والفنادق الأخرى التي تضيء ليل العواصم العربية والعالمية، تخدم بوصفها عوالم صغيرة للأيديولوجيا الرأسمالية وتعكس قِيم الاستهلاك والإقصاء والتسليع. كما أنها تجسد الهرمية الاجتماعية وتعززها، وتؤكد، بهندسة عمارتها وتصميمها، الفروق الاقتصادية والطبقية. فالفنادق، كما يراها جيمسون، ليست أمكنة وظيفية فحسب، بل نصوص ثقافية تعبّر عن المعاني والأيديولوجيات. ويساعدنا تحليل التصميم المعماري للفندق في فهم كيف تصوغ هذه الأمكنة التجارب والتفاعلات.

وهذا بدوره يؤكد الدلالة الثقافية لهندسة العمارة في المجتمع المعاصر. ذلك أن الفنادق الفخمة تجسد خصائص جماليات ما بعد الحداثة، كمثل المزج بين الزخارف المختلفة، وجاذبية السطح، والانتقائية.

وداخل هذه الأمكنة تتحول الضيافة وأوقات اللهو والفراغ إلى منتجات للتسويق تعكس تغيراً في القيم الثقافية يشجّع على الاستهلاك بدلاً من الانخراط والتفاعل الحقيقي. وهذا يسوّق لتجربة جمالية مغلقة ومسلّعة تخدم مستهلكين أثرياء ينشدون المتعة والهرب وتقصي المشاركة الاجتماعية الأوسع.

ثم إن الفنادق الفخمة بوصفها أمكنة تعكس قيم المجتمع الرأسمالي وتُسوّقها.

ركز جيمسون في كتاباته المتأخرة على تحليل العولمة والإمبريالية وتأثير التكنولوجيا على الثقافة. ودرس الحرب في سياق ما بعد الحداثة، وعدّها انعكاساً لصراعات أيديولوجية أعمق داخل النظام الاجتماعي، تكشف عن التوترات بين الطبقات والجماعات المختلفة.

كما تحدث عن حروب التحرير وكيف يمكن أن يُساء فهمها عبر التمثيل والتغطية الإعلامية، ويتم تحويل أحداث الحروب إلى سلعة للتسويق من دون اكتراث بالعواقب الحقيقية للحرب.

لهذا دعا إلى التسلح بالفكر النقدي لفهم الصراعات في سياقها التاريخي.

تجسد مسيرة جيمسون مفكراً طوّر النظرية النقدية في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين.

ومنذ تركيزه في بداية حياته الفكرية على اللاوعي السياسي إلى تفكيكه اللّاحق لما بعد الحداثة وتأثيرات العولمة على الساحة الدولية، بنى جيمسون مشهد النقد الأدبي والثقافي الذي يواصل فيه المفكرون مقاربة تعقيدات الثقافة في عالم سريع التغير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* شاعر وكاتب سوري مقيم في الولايات المتحدة

“العربي الجديد” – 30- أيلول 2024

https://2u.pw/VSQEQ28e

 

عرض مقالات: