آشيل مبيمبي من أبرز المفكرين الكاميرونيين، ذوي الأفق الأممي المناهض للكولونيالية والنصير للشعوب والقوى المستضعَفة؛ أستاذ باحث في التاريخ والسياسة في «معهد ويتووترسراند للبحوث الاجتماعية والاقتصادية» في جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا. وغالباً ما تستدعيه الجامعات الأميركية ذات الصيت الأكاديمي التحرُّري، كـ «كولومبيا» و«هارفارد». ألّف عدداً من الكتب من بينها: «ما بعد الاستعمار: بحث في التخييل السياسي في أفريقيا المعاصرة» (2000)، و«سياسات العداوة» (2016)، و«نقد العقل الزنجي» (2016)، و«السياسة الميتة» (2019)... ولد آشيل مبيمبي عام 1957 في بلدة تبعد ستين كيلومتراً عن ياوندي في الكاميرون، وقضى طفولته في مزرعة والده ضمن عائلة مسيحية قومية. ظلت بعض المشاهد المروعة من عنف الاستعمار مترسّخة في ذهنه، ولا سيما أثناء حرب التحرير الكاميرونية بين عامَي 1955 و1962، حيث قتل عمه إلى جانب الزعيم الثوري الوطني روبين أم نيوبي الذي سُحل عبر القرى بهدف ترهيب السكان. ومنذ تلك الفترة الصعبة، ولدت رغبته في التخصص في مادة التاريخ، فانتقل إلى باريس لمواصلة دراسته الجامعية. وفيما تغاضت الرواية التاريخية الرسمية في الكاميرون عن شخصية روبين أم نيوبي، ظل مبيبي ساعياً إلى إحياء ذاكرة الزعيم الثوري. لكن سلطات بلاده رفضت أفكاره، وطاردته إلى أن قررت نفيه عشر سنوات. لا لشيء سوى أنه نشر في كتابه الأول نُتَفاً من نصوص كتبها روبين أم نيوبي. وانعكس هذا القرار على حياته الشخصية، إذ إن السلطات منعته من حضور جنازة والده، ما دفعه لعدم السفر نهائياً إلى الكاميرون. في كتابه الجديد «الجماعة الأرضية»، يوظّف الفيلسوف الكاميروني جمعاً فريداً لمقولات الفكر الغربي التحرري بِـ «الأرشيف الأفريقي»، ليستدعينا بالتالي إلى دخول عالم مساواتيٍّ من العلاقات الجديدة. إنّ الدخول إلى عوالم هذا الكتاب يشكِّل تجربة متفرِّدة؛ فإذا كان الخيط الناظم للتّفكير يشتغل عنده من كتاب إلى آخر، فإنّ الشّكل قد تطوّر ليتخفّف من حمولة الأسلوب الجامعي. ننشر هنا مقتطفات من حوار ألكسندر لاكروا لمجلة «الفلسفة الفرنسية» (Philosophie magazine، العدد 167) في مناسبة منحه «جائزة هولبرغ» للفنون والآداب والعلوم الإنسانية والقانون واللاهوت في «جامعة بيرغن» في النرويج، على مجمَل مؤلَّفاتِه وطروحاته الحيوية من أجل عالم أفضل وأكثر عدلاً ومساواةً عبر كتابه الجديد «الجماعة الأرضية».

* مجتمعاتنا لا توجّه إشارات كثيرة إلى المستقبل، على عكس العصر الوسيط المسيحي مع الكاتدرائيات أو مصر القديمة مع الأهرامات. كيف ترون ذلك؟

ـــ أعيش في أفريقيا الجنوبية، ولكني أسافر في غالب الأحيان إلى أمكنة أخرى. في كل أمكنة الكوكب، ننشغل أكثر فأكثر بـ «بديل العالم»، بالسطح الرقمي على شاشاتنا. نقضي معها وقتاً مهماً من أيّامنا، فسرعات نقل المعطيات والحساب تمّ تنضيدُها. كل الأمور تسير بسرعة في العالم الإلكتروني. ومع ذلك، تجدنا ندور في حلقة مفرغة. يسعى الفضاء العمومي إلى أن يجزّئ نفسه في مقاطع. لاحظ كثيرون من الناس تدنّي مستوى الانتباه، لأنّنا نمرّ باستمرار من نشاطٍ إلى آخر. فالانتباه هو ما يجعل وجود الاستمراريات ممكناً: أظن أن تكون منتبهاً هو أن تكون قادراً على ربط البارحة باليوم، وبما سيأتي غداً.

* هل تقصدون بأنّ الزمن الواقعي لشبكة الإنترنت حاضر دائم، بحيث بتنا أنفسنا محاصرين فيه وعاجزين عن أن نعكس أنفسنا في مكان آخر بعيد؟

ــ نعم، لم يعد المستقبل المصدر الذي يجد فيه الباقي أصله. لم يعد ثمّة أفق نتصوّرُ عبره حاضرنا، كما لو أنّ التاريخ، كما كنّا ندركه إلى حدود مرحلة متأخّرة، قد دخل مرحلة نهائية، فتقلّص إلى حاضر خالص، ولم نعد قادرين إلا على عيش لحظات متقطّعة.

* وصفت في بحثك النقدي الذي نشر عام 2020، مختلف أشكال العنف المعاصر، فجعلته ينضوي تحت المفهوم الوحيد المسمّى بـ«الوحشية»، كيف تعرّفونه؟

ــ أولاً، الوحشية هي حركة معمارية من النصف الثاني من القرن العشرين، أُهملت اليوم، وارتكزت على استعمال مكثّف للخرسانة الخام. لقد اهتممت بالمعمار باعتباره تخصّصاً علمياً وممارسة ذات علاقة بالهدم والبناء، أي ذات علاقة بموادّ تُجمع أو تُحوَّل. هذا لا يمكن أن يكون من دون علاقة مع النموذج الاستئصالي الذي تُبنى عليه حضارتنا الاقتصادية. العنف والاستئصالية في جنوب العالم، أكثر بديهيةً منها في مكان آخر: تُقتلع التربة للبحث عن الموارد مثل الكوبالت، والماس، والنحاس، والفوسفات، والليثيوم. وتُستنزف فرشة المياه الجوفية، والأنهار الملوّثة، وتُسحق الغابات البدائية من أجل تجارة الخشب. على عكس ما نعتقد أحياناً، هناك رابط عميق بين صِنْوِ الأرض الرقمي الذي تمثّله شبكة الإنترنت، وهذا الاستئصال الوحشي الذي يُمارس على المادّة أي جَسَدِ الكوكب. الرقمي غير مفصول عن الخامّ. في عالم مخترق بالنزعة الإنتاجية، لم نعد نجد المأوى إلا في الواقع الافتراضي. يتيح لي مفهوم «الوحشية»، تحت المصطلح نفسه، ربط هذا التعالق بين البُعدين البيئي والتكنولوجي لحضارتنا.

* الوحشية تسير جنباً إلى جنب مع نوع من التَّعَمْلُق في ما يخصّ العمران الحضري. ألا تجد أبراج دبي وشنغهاي إشاراتٍ مرسلة إلى المستقبل؟

ـــ عندما تنظرون إلى أبراج ساندتون، وحيّ الأعمال في جوهانسبورغ، وأبراج شنغهاي أو دبي، ترون أنّ الزجاج يقترن أكثر فأكثر بالخرسانة، ثمّ تسعى الوحشية إلى أن تظهر نفسها كأنّها شفّافة كمرآة. لكن هذا التعملق المعاصر الذي تشيرون إليه، ألا يبحث عن اختراق للزمن؟ هو لا يشهد على بحث لاهوتي، بل أقلّ من لاهوتي– سياسي، وهو الشيء الذي كان يسم بالضّبط الأهرامات أو الكاتدرائيات. إنّنا أمام قضية التعملق الدنيوي. تعملق منغلق بإِحكام، إذا جاز لي قول ذلك.

* في كتابك «الجماعة الأرضية»، تستمدّ من معرفة الأسلاف الأفريقيين مواردَ تجابِهون بها تحدّيات زمننا، وخصوصاً أساطير قبائل البامبارا الزنجية عن ولادة الأرض...

ــــ نعم، تضعون الإصبع على قلب معمار أعمالي في التأليف. أعرف أن مشروعي يحمل بعضاً من سمات الطوباوية. تعالج أساطير الأسلاف الأفريقيين صلاحية السّكن واستدامة الأرض، وهذه أسئلة تطرح بطرق مأساوية من الآن فصاعداً، بسبب تهديد نراه لمستقبل البشرية سينتهي إلى احتراق العالم. بحسب تفسير نشأة الكون عند قبائل البامبارا الزنجية، فالأرض نتاجُ زوبعة في وسط الفضاء، وتمدّد بل تشتت، يتّخذ مساراً لولبياً. اللولبية تدور وجسد الأرض يتعرّق، ترشح منه مادّة شبيهة بالدرنِ. يمنحنا ذلك صورة للأرض التي لا تعدّ مادّة مكتملة، وليست شيئاً، ولكنّها عكس ذلك، خاضعة لدورات إفراز وتوليد. لقد ذهبتُ للبحث في هذه الأسطورة، حيث الأرشيف الأفريقي، هذا الحافز الذي يبعدنا في غالبية الأحيان عن العقلنة الآلية المهيمنة على علاقة الغرب بالكوكب.

* تستعملون عبارة «الأرشيف الأفريقي» بينما قبائل البامبارا الزنجيَّة وشعب الدوغون الأفريقي ذات ثقافة شفوية، حيث تسجّل هذه الأساطير، كيف يمكننا الوعي بذلك؟

نجد هذه الأساطير في الحكايات المروية على لسان الشيوخ المسنّين. أساطير شعوب البامبارا والدوغون، تمّ احتضانها وأرشفتها من قبل المؤرّخين وعلماء الإناسة والأعراق (الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا). أفكر أيضاً في أعمال مارسيل غريول (1898-1956)وفريقه، وهناك أيضاً وسائطَ منقوشة ـــ إذا عرفت كيف تؤوّل الرمزية ـــ وإنجازات مرئية طقوسية.

* تهتمون بالأساس العتيق للتكنولوجيا وتخصّصون تحليلاً لدورِ الإصبع في الحضارة الرقمية.

ـــ مع الحقبة الرقمية، يجد الإصبع كامل أهميته، بسبب الشاشات التي تعمل باللمس على وجه الخصوص. أقترح العمل بتحليلات الباحث العلَّامة في ما قبل التاريخ أندري لوروا-غورهان في كتابه «الإشارة والكلام» (1965)، إذ برهن على وجود روابط محدودة بين التشريح الإنساني والأدوات التقنية الأولى. وجدت اليد امتدادها في الغرانيت، والمقابض، والرّماح، والفؤوس، بطريقة تشخيصية. لقد أوقف هذا التبادل بين التشريح والتكنولوجيا مع الدخول إلى التّاريخ الحديث. أحاول أن أعيد تقويم معياري للأشياء، وإعادة التفكير من زاوية الحداثة لكي أبرهن في العمق، أنّ التكنولوجيا لم تخرج أبداً من العصر أو الحقبة التشريحية. فنحن نتفاعل دائماً، بالعين، بالإصبع، بالصّوت مع محيطنا التقني.

* تستدعون أيضاً «أرشيفاً» مسيحياً، كي تقيموا العلاقة بين الشاشات والانبعاث القيامي، عبر وعد بالحياة الأبدية في جسد من نور.

ــ في الختام، ما يلمعُ في شاشاتنا يبدو لي أسطورة النّصر ضدّ الموتِ. بحسب الأسطورة المسيحية، ثمّة انبعاث، ثمّة عروج وتغيير في الأجساد. لقد حافظنا على هذه الرّغبة في تغيير الأجساد، فنحن نبحث عن وسيلة للهروب من الجسد (البدني) المنذور للتعفّنِ. عماذا يحدّثَنا حالياً الما-بعد إنسانيون ومقاولو وادي السيليكون؟ عن إمكانية تهجير أرواحنا، ليس إلى الجنّة المسيحية، ولكن إلى صُوَرِ الأرض الاصطناعية التي يُمَوِّلون تشييدها. هذا ما نراه في مدينة دبي التي تشهد على ضخامة دنيوية. في علم اللاهوت التوحيدي، تعدّ نقطة نهاية خطّ الزّمن وأفق المتعالي محصورةً بالله الواحِد الأَحَد. مجتمعاتنا لم تعد تؤمن بالله، لكنّها لم تصبح متعدّدة الأديان أيضاً، فعوّضت ذلك بألوهية أخرى، هي رأس المال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"الأخبار" اللبنانية – 20 تموز 2024

عرض مقالات: