على خلفية هذه الاوضاع ظهرت كتل متوازية ومتعارضة داخل العائلة الحاكمة، ولضمان ضبط ايقاعها سعى النظام لإعادة هيكلة وتوزيع المناصب والمغانم. وبسبب عمق الازمة البنيوية وتفاقم التناقضات الناجمة عنها فقد امتاز هذا التوزيع بالحركية ولم يثبت على صيغة محددة. وتمت صياغة هذه الهرمية بحسب ظروف المرحلة المعينة، غير أنه كانت هناك قناعة عند رأس النظام تقوم على حقيقة أن “التوازن القلق” هو الذي يجب أن يسود، وأن القانون السائد هو قانون هدم/اعادة بناء الكتل دون توقف.
وعلى “هامش” غزوة الكويت اندلعت انتفاضة آذار/1991، وكان لها المزيد من التداعيات أهمها ذلك “التفجر” الداخلي الذي شهدته قاعدة الحزب الحاكم آنذاك. وتمثل أبرز معالم هذا “التفجر” في “انفلات” هذه القاعدة على قيادتها ومشاركة قطاعات واسعة منها، في معظم المدن، في الانتفاضة ذاتها. وقد شهدت الفترة التالية التي تلت “أم المعارك” مزيدا من التداعيات أبرزها تزعزع الثقة بأجهزة الحزب الحاكم والدولة، والذي قابله انغلاق النظام داخل الكتلة القبلية وتحديداً قرابات الدرجة الأولى والتي تصدعت بعد حادثة اعدام حسين كامل وأخيه صدام وبعض أفراد عائلته، والتي طرحت أسئلة جادة على قدرة هذه العلاقات (العائلية) على اعادة انتاج السيطرة ومن دون الارتكاز على علاقات مادية أخرى.
في هزيمة “أم المعارك” انفجرت بتعبير آخر، أزمة النظام السائد وأزمة سيطرته، التي تجلت بوضوح في الطابع الجماهيري الواسع للانتفاضة رغم ان بعض القوى المشاركة فيها سعت الى حرفها لتتخذ بعداً طائفياً مما كان احد اسباب فشلها. في هذا الوقت بالذات دخلت البنية الاجتماعية في العراق مرحلة جديدة هي، بالتحديد، مرحلة انفكاك أوسع للفئات الوسيطة عن “الطغمة الحاكمة”، أي مرحلة فك “التحالف الطبقي”، الذي كانت هذه الفئات خاضعة لهيمنته. فبعد الصدمة العنيفة التي واجهته والمتمثلة بالحصار الاقتصادي والتوليفة الواسعة من قرارات الحصار والمقاطعة والدمار الشامل الذي لحق بالبلاد بسبب غزو الكويت، لم يعد النظام الدكتاتوري قادراً على أن يهيئ للفئات والشرائح التي ارتبطت به ظروفاً تجعلها تقبل بهيمنة “الطغمة” الحاكمة.
أدى الحصار المفروض الى جملة نتائج في مقدمتها تقلص الريوع النفطية من جهة وتعاظم مستويات القمع من جهة اخرى نتيجة لواقع ان النظام لم تعد تتوفر لديه الاموال اللازمة لإعادة انتاج هيمنته وخصوصا في اوساط قاعدته الاجتماعية التي بدأت تتضاءل وتتململ رغم كل جهوده للحفاظ على تماسكها ووحدتها حتى لو تتطلب الامر مهر هذه الوحدة بالدم.
ومن جانب آخر أدت ظروف الحصار، التي كانت نتيجة منطقية لنهج النظام الدكتاتوري، الى “تحولات” عميقة في البنية الطبقية، معلمها الأول اضمحلال “الطبقة الوسطى” من جهة، وكذلك التهميش الواسع لعموم المجتمع. قابل ذلك بروز “طبقة” ثرية، تتكون من المتسلطين على الحكم، والمرتزقة من العسكريين حماة النظام الدكتاتوري، وجلاوزته والمنتفعين منه، والمهربين وتجار السوق السوداء، وكبار المقاولين والملاكين، والأثرياء من الصناعيين والتجار. نحن إذن شهود ظاهرة تركز شديد للسلطة مقرون به ويقوم عليه تركز شديد للثروة (رغم تضاؤلها) يقابله تهميش قطاعات واسعة من المجتمع بسبب الركود الاقتصادي الهائل، والذي قاد بدوره الى آثار سلبية هائلة، في مقدمتها تدمير منظومة كاملة من القيم الاجتماعية مقرونة بـ “ نهوض “قيم جديدة” (إن صحت تسميتها بالقيم)، لا يتسع المجال هنا للدخول في تفاصيلها وهي بحاجة الى معالجة جادة من قبل السوسيولوجيين.
لقد أدت عملية “الابتلاع” الدائمة، التي تحدثنا عنها في مكان سابق من الدراسة، الى نهايتها المعروفة – ابتلاع العشيرة للدولة والحزب في آن!. وينطرح سؤال بسيط : كيف تمت عملية إعادة انتاج النظام في ضوء هذه الصيغة الملتبسة ؟
للإجابة على ذلك يمكن القول ان “العشيرة الحاكمة” أدت هنا في ظروف العراق الملموسة وظيفة الطغمة، وذلك عبر توزيع الادوار داخلها بصيغة تكفل ضمان التوازن بين كتلها المعروفة. ولكي يتم “ضبط إيقاع” الجميع، ومن أجل خلق التشابكات المطلوبة تم تجزئة السيطرة من جهة وإعادة تجميعها لتبقى تحت قبضة النواة القيادية العليا. ونظراً للأهمية التي تتمتع بها المؤسسة الامنية في منظومة أجهزة السيطرة، وكذلك السلطة الاقتصادية، تم نشر أفراد العشيرة على مختلف المفاصل الاساسية لهاتين المؤسستين، بما تملكه كل منهما من قوة للسيطرة، وبما يؤدي الى خلق أقطاب قادرة على النهوض بأدوارها، كل حسب منطقة السيطرة التي بحوزته. كل قطب في الحكم شاركه قطب في الاقتصاد من أقارب الدرجة الأولى يمثل امتداده في عالم التجارة والمقاولات. قطب الاقتصاد يراكم الثروة، التي تحضى بدعم وحماية قطب الامن أو الاستخبارات. هكذا تمت “صناعة” الاثرياء الجدد الخارجين من معطف شيخ العشيرة: رئيس الدولة، واستخدم البيروقراطي إبن العشيرة القادم من الريف، الماسك بالسلطة، استخدم الثروة الاجتماعية التي بحوزته لصناعة أثرياء العشيرة من خلال المشاريع والمقاولات الكبرى ومن دون الخضوع للإجراءات الطبيعية في منح هذه المقاولات، وكذلك من خلال الهيمنة على التجارة تصديراً واستيراداً.
إن هذا الموقع الذي احتلته “القطاعات الاقتصادية” في الاقتصاد هو، في وجه رئيسي منه، ثمن أو “ريع” إن جاز لنا التعبير – تتقاضاه لقاء “جهودها” في الحفاظ على النظام، والمساهمة في اعادة انتاجه دون عوائق. ولقاء هذه “الجهود والخدمات المحددة” تحظى هذه “القطاعات” بمواقع نفوذ لها في الاقتصاد والدولة، تسخرها لخدمة مصالحها الجديدة المتبلورة.
ويعني ذلك أن دور الدولة يكتسي معنى آخر أو يزداد تحديدا، بحيث أن دولة “الجماعة القرابية” باتت تتحدد بسبب احتلال أفراد “العشيرة” الحاكمة فيها موقع الفئة المهيمنة، لمجموعة من مواقع النفوذ التي يعود لمن هو فيها حق الانتفاع الخاص المباشر، من حيث هو حق انتفاع عائلي أو وظائفي. بهذا المعنى يصح على هذه “الدولة/العشيرة” القول الشائع بأنها “مزرعة” يخرج منها متخم الجيبين من يدخلها خاوي الجيب، على حد تعبير الشهيد مهدي عامل. ينشأ هنا تناقض بين الدور السياسي التقليدي للدولة المتمثل في تأمين ديمومة النظام المسيطر دون عوائق، وبين دورها الاقتصادي المتمثل في تأمين ذلك “ الريع لـ”الاقطاعات العشائرية” الطامحة بلا حدود للسلطة والثروة، والتي بدأت تحتل مواقع السيطرة على المفاصل الاقتصادية الاساسية.
إن هذه الرابطة الوثيقة بين السلطتين الامنية والاقتصادية ازدادت لحمة في ظروف الحصار الاقتصادي. فقد تحقق اندماج كبير وتداخل بين الإثنين عبر تحكم العشيرة بالاقتصاد حسب التراتيبية الأمنية ابتداء من فوق. وخلال السنوات التي تلت “عاصفة الصحراء” و”أم المعارك” السيئتي الصيت أمسكت العائلة الحاكمة بكافة حلقات الاقتصاد، وباتت تسيطر على كافة جوانبه الرئيسية محولة إياه الى اقطاعيات مغلقة. وبرز بوضوح صارخ الثراء الفاحش لفئة ضئيلة مقابل اغلبية مطلقة من المجتمع كانت تتضور جوعا، وجاهدت من أجل الحصول على الحد الادنى من لقمة العيش.
إن هناك عدداً قليلاً من العوائل التي تنتمي الى مدينة واحدة (تكريت) كانت تسيطر على الاقتصاد، أغلب ابنائها كانوا اعضاء قياديين في الحزب الحاكم آنذاك أو تولوا مناصب قيادية في مؤسسات قيادية في أجهزة الدولة كالجيش والمخابرات والامن وتحولوا الى النشاط الاقتصادي. وكما تشير المعطيات الاحصائية فإن هناك (130) إسماً من الشريحة القيادية العليا كانوا يتحكمون باقتصاد البلاد، حيث اصبح التحكم بـ (17) مادة أساسية من طعام الناس من قبل نفس العشيرة عامل اضافي بعد الهيمنة على اجهزة القمع والأجهزة الايديولوجية (1).
وبموازاة ذلك كانت تجري عملية تخصص عميقة وتوزيع أدوار. فعلى سبيل المثال سيطر الابن الأكبر لرأس النظام السابق (عدي) على قطاعات واسعة. وتكاد كل الدلائل تشير الى أنه كانت بحوزته امبراطورية مالية هائلة، فلا أحد كان ينافسه في مجال التجارة الخارجية. كما أنه كان “اللاعب الوحيد” في تجارة تهريب النفط الخام (حوالي 400 ألف برميل يوميا)، حيث استطاع انشاء نظام سري لتصدير النفط ومشتقاته لتفادي الحظر على تصدير النفط الذي فرضه مجلس الامن نتيجة غزو قوات النظام للكويت. ومقابل ذلك أعيد تنظيم الاجهزة القمعية ومركزتها بحيث أصبح الابن الاصغر لرأس النظام (قصي) يتحكم بكل خيوط المؤسسة الامنية وأجهزتها المتنوعة.
يجب أن نعي وجود تناقض بنيوي مستحكم في السيرورة الاجتماعية الفاعلة في هذه التشكيلة الاجتماعية، أي صعود الفئات الجديدة القادمة من العشيرة الحاكمة وتحالفاتها المتنوعة الى مرتبة الفئة الحاكمة، من ناحية، والايديولوجيا والممارسات الاقتصادية التي تبرز من خلالها هذه المسيرة من ناحية ثانية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
- قارن: زهير الجزائري، الدولة والحزب والقبيلة........، مصدر سبق ذكره، ص 66.