ليس هناك شحة في ما كتب عن حضارات بلاد وادي الرافدين من فبل آثاريين عراقيين وأجانب، بل وهناك الكثير مما سيكتب لان أغلب المواقع الآثارية لم يتم تنقيبها وما تزال متروكة عرضة للتغير المناخي ولمافيات سراق الاثار، وكذلك لوجود أعداد ضخمة من الألواح الطينية المدونة للكتابات المسمارية لم تتم ترجمتها بعد بسبب قلة المتخصصين في هذا الجانب .

وتركز هذه الكتب والمقالات، والعديد منها مهم، على توصيف المشاهد التاريخية مثل الحروب والتمدد العسكري والوضع الاقتصادي والحياة الاجتماعية من ثقافة وفن وأزياء، مع اهتمام خاص بالموضوعات المتعلقة بالسحر والأساطير والدين بسبب أن تمويل معظم البعثات الآثارية الغربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين جاء من مؤسسات دينية وبهدف إيجاد لقى تدعم سرديات العهد القديم والجديد، بينما نجد نقصا في المقاربات التي تعتمد تحليل الواقع  الاقتصادي -  الاجتماعي والبنية الطبقية لهذه المجتمعات لفهم عملية ارتقائها وتطورها التاريخي .

 ومن الحضارات التي حظيت باهتمام خاص حضارة سومر التي كانت بدايتها في الألف السادس قبل الميلاد وانتقلت الى بناء عدد من الدويلات والمدن المستقلة في جنوب العراق كأور ونيبور ولإرسا ولكش وكيش وأريدو على سبيل المثال. ومن أسباب الاهتمام بالحضارة السومرية كونها الأولى التي دشنت بدء العصور التاريخية في بلاد وادي الرافدين وحكمتها سلالة من الملوك التي عثر على أسمائهم في اللوحات الطينية المسمارية، وحققت إنجازات علمية وثقافية على شكل أساطير ومرثيات وقطع أدبية هامة، واهتمت بالتدوين التاريخي في فترتي ما قبل وبعد الطوفان ومن حكمها من الملوك. وهناك سبب مهم آخر يعود الى الجدل حول من هم السومريون ومن أين جاءوا وهو جدل مايزال مستمرا. وجاءت نهاية المملكة السومرية في الفترة بين 2300- 2335 ق.م عندما اكتسحها سرجون الأكدى واقام الإمبراطورية الأكدية على أنقاضها.

وقد اهتم ماركس وانجلز بالموضوع اثناء دراسة ارتقاء المجتمعات ودور قوى الإنتاج واشكال الأنماط، اعتمادا على المنظور المادي التاريخي في الانتقال من نظام المشاعة البدائية الى النمط العبودي بدءا من العصور الحجرية عندما اعتمد الانسان على جمع القوت والصيد بواسطة أسلحة بدائية مصنوعة من قطع الحجر والصوان التي يتم صقلها وتهذيبها. وقد حذرا من مغبة استنساخ أنماط المراحل الانتقالية الخمس في أوروبا واسقاطها على حضارات الشرق، وأشارا الى احتمال وجود نمط “آسيوي” يختلف عما ساد في أوروبا.

وكانت أحد أسباب محدودية مساهمتهما في تحليل التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية في الشرق هو غياب المصادر عن طبيعة علاقات الإنتاج وأشكال البناء الفوقي المادية والروحية المرافقة لها. وقد انتقدا القراءات التي تبتذل العملية التاريخية المعقدة وتحولها الى فرضيات تحوي مقاربة “ما فوق تاريخية” يمكن استخدامها في كل زمان ومكان وبالضد من المفهوم المادي للتاريخ الذي يؤكد على ترابط عملية ارتقاء المجتمعات في العالم بالظروف والخصائص المحلية وفي الزمان المحدد ولكن ليس بشكل عفوي عشوائي بل على أساس قوانين تنظم نشوء ونمو وتطور الحضارات حتى نهايتها عندما يتم تبديلها بأشكال جديدة أرقى. ويغلب على هذه العملية عنصر التعقيد ويختلف من حضارة الى أخر نتيجة تداخل عوامل جغرافية وطبيعة الطبقة الحاكمة وتوزيع الثروة المادية مثل الأرض وملكية وسائل الري في بلاد الشرق التي اتسمت بالمركزية في حضارتي وادي الرافدين والنيل، والانتقال التاريخي الى نظام “الخراج” الذي جاء مع الفتوحات الإسلامية. ووقف ماركس بالضد من اختزال أنماط الإنتاج في الشرق كثنائية بين سلطة الملك والكهنة من جهة والمجتمعات القروية الفلاحية.

وتوفر المعطيات والمعلومات الحالية عن حضارات وادي الرافدين التي قدمها ما يقارب القرن من التنقيب والبحث الآثاري فرصة لتعميق الفهم النظري لهذه المجتمعات وفي تطبيق قوانين المادية التاريخية كأدوات للتحليل والنقد، ولكن بدون الوقوع في هوس عدد من الماركسيات الغربية التي وضعت سورا لا يمكن تجاوزه بين ما يطلقون علية الماركسية الأرثوذكسية وبين المحدثين الذين أفرغوا الدراسات التاريخية من سلاحها الفلسفي المتحزب ومشروعها التغييري وتحويلها الى نظرات تأملية حداثوية.

وقد تطلب أكثر من نصف قرن لترجمة الأرقام الطينية التي نقلت من العراق الى المتحف البريطاني وبعض المتاحف في أمريكا وأوروبا رافقها تطور في مهارات ترجمة اللعة السومرية التي فتحت عالما معرفيا جديدا أمام الباحثين في حضارات واقتصاد وثقافات بلاد وادي الرافدين.

وقد تأثر التعامل مع هذه المعارف الجديدة في مراكز الأبحاث الغربية بمواقف العداء للماركسية والشيوعية وأيضا بالعنصرية الدينية التي تجنبت المساس بتراث وادي الرافدين بسبب عدم التطابق مع السرديات الدينية، من دون التقليل مما تم نشره مقارنة بحضارات وادي النيل القديمة.

وقد انتعشت المقاربة الماركسية في العقد الثالث في القرن الماضي ولغاية الستينيات حيث كان هناك اهتمام واضح من قبل المدرسة السوفيتية في علم الآثار، حيث قدمت منظورا متجددا في دراسة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لسكان العراق القدماء من قبل عدد من علماء الآثار السوفييت وتمت ترجمة ذلك الى الإنكليزية والقليل منها الى العربية. ومن هؤلاء عالم الآثار من جامعة بطرسبيرج فاسيلي ستروف (1889-1965) الذي اهتم بدراسة الاقتصاد السومري في عهد سلالة أور الثالثة وعن “ لكش” قبل سرجون الأكدى، وكذلك عالم الآشوريات والسومريات إيغور دياكونوف (1915-1999) من جامعة لينينغراد. وآخر ما ترجم الى العربية ونشر عام 1989 هو كتاب من تأليف فاليري غولايف (ولد عام 1938) عن الدويلات - المدن في جنوب العراق، وهو أستاذ علم الآثار في جامعة موسكو.

ولم تتواصل هذه الدراسات التي أثارت جدلا أغنى الفهم النظري لعملية الانتقال من المشاعة البدائية الى النمط العبودي والاقطاعي، ولكن بخصوصيات وادي الرافدين بسبب دوغما التعامل مع البحوث الفكرية والعلمية في مرحلة الاتحاد السوفيتي السابق وخاصة بعد ثلاثينيات القرن الماضي، وهو ما ترك بصماته على العمل البحثي والأكاديمي ومنها في علم الآثار والتاريخ. وفي خمسينيات القرن الماضي امتد اليها هوس الحرب الباردة التي كانت جزءا من الحرب النفسية والسياسية التي شنتها أجهزة المخابرات والأمن القومي الغربي. وتأسست مراكز أكاديمية متخصصة بشيطنة الفكر الماركسي والترويج لماركسيات غربية بديلة مجردة من المقاربة المادية الجدلية ومن مبدأ الممارسة. ومن الأمثلة الشيوعي الألماني كارل ويتفوجيل (1896-1928) الذي انتقل الى المعسكر الفكري البرجوازي وعمل أستاذا في احدى الجامعات الامريكية، حيث تم ترويج كتابه حول مفهوم الاستبداد الشرفي كنتيجة حتمية لتسلطية الحزب والدولة في روسيا وانسداد أفق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والذي كان تطويرا لرسالة الدكتوراه التي قدمها في معهد الدراسات الاجتماعية المعروفة باسم مدرسة فرانكفورت النقدية .

وقد تميز العراق بوجود لقى لأشكال وأنواع من الأدوات التي استخدمها القدماء قبل أكثر من مئة ألف سنة وخاصة في مناطق إقليم كردستان قرب جمجمال والسليمانية (حيث عثر في كهف شنايدر الشهير على هيكل عظمي لإنسان النياندرتال يعود الى ما قبل 40000 سنة ق.م). وقد وجدت هذه الأدوات الحجرية أيضا في سنجار وفي الرطبة. وبعد ذلك حل العصر الحجري الحديث الذي تميز بالاستقرار في قرى نتيجة تعلم الزراعة وتدجين الحيوانات خاصة في مناطق السهل الرسوبي جنوب العراق قبل 10000 ق.م بسبب خصوبة الأراضي. وفي بداية الألف الخامس ق.م اكتشف العراقيون القدماء المعادن. وعثر على أدلة لهذه التطورات في التنقيب عن آثار تل العبيد قرب أور، وأيضا في أريدو غرب مدينة الناصرية، والوركاء شرق السماوة، وقرب مدينة بابل .

وتميزت هذه المرحلة بالفخاريات وما عليها من نقوش ملونة. ووثقت الدراسات تطور الحياة الروحية للسكان في مرحلة “الدويلات – المدن” السومرية والتي بدأت ملامحها في 4000 ق م وتحولت الى كيانات سياسية اقتصادية لها زعامات ومؤسسة عسكرية وجهاز اداري في 3000 ق م، وهو ما أشر بداية عصر فجر السلالات وبداية الحضارة السومرية. وظهرت في هذه المرحلة ثنائية الملك والكاهن وتطور الأساطير والطقوس الدينية التي كان الماء والسماء أحد رموزها الهامة، وبناء الزقورة لعبادتها حتى انهيار الحضارة السومرية وصعود حضارة أكد على يد سرجون الأكدى الذي حكمت سلالته جنوب العراق لمدة قرن.

عرض مقالات: