ربما لم تشهد أي مهمة تصدى لها الشيوعيون في سفرهم الكفاحي، جدلاً شمل القدح والمديح، كمهمة بناء تحالف طبقي او سياسي، رغم اتفاق الجميع على اهمية ذلك في حياة اليسار، حيث كان هناك خلط بين شكلي التحالف أو وضعهما محل بعضهما او حدد اشتراطات لقيامهما، منسجمة مع تصوراته ومصالحه، في إرادوية فجة، متناسياً أن نجاح التحالف مرتبط بحاجة طبقات وفئات اجتماعية للتقارب والوحدة، لتحقيق مصالحها في اطار سعيها لإضعاف الطبقات والفئات ذات المصالح المختلفة معها.
كما إن احداث تغيير في موازين القوى بين هذين الطرفين، المهيمِن والمهيمَن عليه، سيؤدي هو الأخر، عاجلاً أم آجلاً، الى تبدل في شكل وحجم الحاجة التي بررت وجود التحالف، سواء في تقلصها أو في اتساعها، تبعاً لمدى بقاء مصالح المتحالفين متوافقة مع بعضها أو حدوث تعارض فيما بينها.
ولهذا ارتبط نجاح اليسار في بناء تحالف مثمر، بقدرته على تحديد طبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها بلاده، بدقة تفسح له في المجال للتعرف على التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية، وبالتالي فرز الحلفاء الطبقيين عن الخصوم.
كما يعتمد نجاح التحالف على قدرة اليسار في إدارة الصراع داخل التحالف الموحد، وإدامته حياً وفاعلاً حتى الوصول الى تغيير التوازن بين جبهته وجبهة خصومه.
التحالفات في زمن العولمة
وقد باتت التحالفات الطبقية والسياسية أكثر ضرورة لليسار في مرحلة العولمة الرأسمالية، بأعتبارها طوراً متقدماً من الإمبريالية، تتشابك فيه مهمات التحرر من التبعية مع مهام التحول الديمقراطي، وذلك لتعدد الطبقات والفئات الاجتماعية التي تتضرر مصالحها من سياسة التبعية والتهميش الإمبريالية.
وانطلاقا من هذا، فأن تحالف اليسار ينبغي أن يضم الطبقة العاملة وحلفاءها (الأجراء ومتوسطي المزارعين والفلاحين والبرجوازية الصغيرة والعاملين في المهن الحرة والتعليم والتكنولوجيا والعلوم وغيرهم) والبرجوازية بفصائلها الوطنية المناهضة للهيمنة الأجنبية، فيما تضم جبهة الخصوم، البرجوازية التابعة، التجارية والمالية، وحلفائها على الصعيد الإقليمي والعالمي، المتمثلين بالرأسمالية المعولمة.
وفيما تتفق الأغلبية على أن القوة المحورية لتحالف اليسار، تقتصر على الطبقة العاملة، رغم صغر حجمها ومحدودية نفوذها، فإن هناك شكوكاً لدى البعض حول تجليات دور الشغيلة القيادي في الوقت الراهن، وقدرتها على حمايته في وجه الفئات الوسطى، التي تسعى لتبوئه.
التناقضات الثانوية
ولهذا يمتد الحوار حول التناقضات الثانوية بين اطراف تحالف اليسار نفسها، رغم تشاركها في التناقض الرئيسي، والمساحة المتاحة لمعالجة تلك التناقضات بحيث لا ينفرط عقد التحالف من جهة، ولا تتم التضحية بالمصالح الأساسية لليسار من جهة مقابلة. ويتركز الحوار حول الأدوات التي ينبغي لليسار أن يفعّلها ليدير بشكل مثمر، هذا الصراع الطبقي “الداخلي”. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، إجماع الأطراف على تناقضها الرئيسي مع الرأسمالية المعولمة وتبنيها لمشروع التحرر من هيمنتها في ذات الوقت الذي ترفض فيه اقسام مهمة منها، تغيير علاقات الإنتاج التي تشكل القاعدة المادية لتلك الهيمنة.
وفيما تدعو بعض الأراء الى اعتماد القطاعات الاقتصادية العامة والخاصة لتحقيق التطور الاقتصادي- السياسي وضمان مصالح الكتل الطبقية المنضوية في التحالف، فإنها تعرب في الوقت نفسه عن اعتقادها بان ذلك يجب أن يرتبط بنشاط جماهيري متميز، يمنح اليسار افضلية في حل التناقض الثانوي وفي تخطي مساعي تخريب التحالف، وبالتالي اضعاف الصراع ضد الرأسمالية المعولمة. ويشيرون الى ان أهم ما ينبغي التركيز عليه في هذا الأمر، القدرة على تطوير وعي الجماهير وتحريرها من هيمنة القوى البرجوازية ومن الزبائنية التي تشدها اليها، وتعبئتها في النضال السياسي والاجتماعي، الهادف الى تأمين مصالحها.
الحرية والعدالة الاجتماعية
إن تحديد التناقض الرئيسي بين حاملي علاقات الإنتاج الرأسمالية، سواءً السادة منهم في المركز أو التابعين في دول الأطراف، وبين اليسار ومشروعه الوطني والاجتماعي، يثير حواراً فكرياً معمقاً حول مستوى المرونة التي ينبغي أن يتسم بها التعامل مع التناقضات الثانوية، وبشكل خاص في قضيتي الحرية والعدالة الاجتماعية.
فقد كشفت تطورات الأحداث، وخاصة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، عن اكتساب الصراع الطبقي طابع صراع وطني تحرري ايضاً، لأنه يستهدف بوضوح إنتزاع السلطة من الرأسمالية المعولمة ووكلائها المحليين. ولهذا فإن قضية الكفاح من اجل بناء وصيانة الدولة الوطنية باتت تحتل موقعاً مهماً في البرنامج الكفاحي لليسار. غير أن هذا البناء يجب أن يتم باعتماد الشرعية الديمقراطية وتحصين السلطة السياسية من أي شكل للإستبداد، حيث تمثل الانظمة الديكتاتورية، المطلقة منها أو تلك المستندة لشرعية طائفية، القاعدة الاجتماعية للرأسمالية المعولمة، واداة تنفيذ اهدافها في الاستحواذ على الأسواق الاجنبية وثروات الدول الوطنية واضعاف مبدأ السيادة واجهاض النضال من أجل تحقيق الديمقراطية السياسية والتحرر الاقتصادي.
ومن هنا لابد أن يتوفر في اطراف أي تحالف يقيمه أو يشارك فيه اليسار، ايمان حقيقي بالتداول السلمي للسلطة، وعمل جاد لبناء مجتمع مدني وحياة حزبية فعالة ومشاركة جماهيرية حقيقية، وكفاح لا يلين لصيانة الحريات وتأمين الحقوق. ولهذا لا يعد مشروعاً إبداء أية مرونة مع القوى التي تعرقل تحول الدول الإستبدادية الى انظمة ديمقراطية تؤمن المصالح الطبقية للمنتجين، حتى لو إدعت هذه القوى معاداتها للإمبريالية، واقسمت على ذلك بأغلظ الإيمان.
لكن، وبالمقابل، تقتضي تنمية الإصطفافات الطبقية المناهضة للعولمة الرأسمالية وتوسيعها، نمطاً من الموازنة يؤمن مستوى من العدالة الاجتماعية، قابلاً للتطور، شكلاً ومضموناً، عبر كفاح متواصل. إن اتساق المرونة في تبني هذه الأنماط من “التعاون” الطبقي بين الطبقات الاجتماعية المنتجة، مع الحاجة لإجهاض الهجوم الشرس للعولمة الرأسمالية والنشاطات التخريبية لإتباعه من الكومبرادور والبرجوازيتين الطفيلية والبيروقراطية، ما زال نقطة حوار لم يكتمل بعد.