إذا سلمنا بأطروحة شعبان عن سيطرة ذوي الصلات السياسية على قرابة نصف أصول المصارف، بل امتلاكها، عما يدلنا ذلك عن سياسات القطاع المصرفي عموماً، وعن وضع كل مصرف منها على حدة؟ وكيف يزيدنا ذلك علماً عن السياسة المالية والاقتصادية في البلد؟

الحجج الثلاث التي يقدّمها شعبان على أثر الصلات السياسية على أداء المصارف هي الآتية: المصارف المسيّسة أكبر من المصارف الأخرى؛ تملك عدداً أكبر من سندات الخزينة؛ وتلجأ إلى دعم الدولة أكثر من غيرها. والحال أن هذه الخصائص تلقى تفسيرها في أن الباحث اختار أكبر المصارف في القطاع. هل تؤثر السيطرة السياسية على ربحية المصارف والمقصود التأثير الإيجابي على حساب سائر المصارف؟ وهل تدلّ تلك الصلة على انكشاف زائد للمصرف المعني في موضوع الدين العام؟ يعترف الباحث بأن لا أدلة على ذلك الأثر في الحالتين>

التحقيق البوليسي، الذي ألقى شبهة «الصلة بالسياسة» على العائلات المسيطِرة على القطاع المصرفي والمساهمين فيه، هو بديل كسول عن أي تحر جدي عن كل تعقيد العلاقة المتبادلة بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية يتحدث الباحث عن الخدمات التي تقدمها المصارف للسياسيين عن طريق التوظيف السياسي والقروض السياسية في مقابل مساهمة المصارف بدورها في تمويل الانتخابات، مع أنه يستدرك بأن البيانات ليست متوافرة عن تلك الخدمات المتبادلة. في حين أن التحفظ الأكاديمي لا يمنع المرء من الاستدلال على أن المصرفي مروان خير الدين موجود على لائحة تدعمها حركة أمل وحزب الله، ليس موجوداً لكونه إبن عائلة سياسية ولا مواهب سياسية خاصّة به، بل إنه ضُمّ إلى اللائحة ليسهم في تمويلها. وهذا تقليد عريق في السياسة اللبنانية منذ أن كان التمثيل النيابي.

على أن شعبان لا يشير إلى ذلك في حديثه عن التواطؤ بين السياسيين والمصارف القائم منذ الاستقلال و«جمهورية التجّار» (تُنسَب التسمية إلى كارولين غايتس وهي لألبرت حوراني)، وهو تواطؤ يدعم بنية السلطة الموجودة، حيث المصارف تدافع عن النظام الاقتصادي بقيادة قطاع الخدمات، وتناضل بشراسة ضدّ رفع الضرائب على أرباحها والريوع والفوائد. فما الحاجة إلى هذا المقطع من قبيل «رفع العتب» في نقد المصارف، طالما أن الباحث ينسب لها الإمرة في تلك المواقف والمبادرات الذاتية دونما حاجة للاستعانة بالسياسة والسياسيين؟

أما ما يترتب من آثار ممارسة «رأسمالية المحاسيب» في الجمهورية الثانية فهو الآتي:

»إن منظور انتفاع الأقربين لدى المصارف اللبنانية قد تكون له ارتدادات سلبية على نوعية التسليف، ذلك أن البيانات توحي بعلاقة متبادلة سلبية قويّة بين سيطرة مالكي الأسهم السياسيين ومعدّل القروض غير الفاعلة (أو المشكوك بها/ باستردادها) قياساً إلى إجمالي الأصول».

لا حاجة للخوض في بحث هذه الخلاصة الاحتمالية، والتي قد تعود إلى مجرد الطابع المغامر للمصرف المعني. والأهم أنها خلاصة تبدو شديدة التواضع قياساً إلى ضخامة السيطرة والتملّك التي تمارسها عائلات رجال أعمال عمّدت «عائلات سياسية».

مهما يكن، تحقق المطلوب من البحث، وهو إلقاء شبهة «انتفاع الأقربين» و«رأسمالية المحاسيب» على تدخّل السياسيين والدولة في هذا القطاع المصرفي الحيوي والرائد في الاقتصاد اللبناني. ولن نعرف شيئاً عن «المصرفيين الأحرار» ودورهم في تسيير القطاع المالي والسياسة الاقتصادية. وما تحقق، بكل موحياته حول سندات الخزينة والديون الهالكة، قد أسهم في توظيفه في تبرئة المصرفيين عن الأزمة المالية التي انفجرت العام 2019 وتبنّي رواية المصارف عن مسؤولية الدولة عن المديونية، مع كل ما يستتبع ذلك من حدود وقيود فرضتها جمعية المصارف على أي تسوية للأزمة بما في ذلك الحد الأدنى مما يطالب به صندوق النقد الدولي.

فيما السلطة السياسة علنية ومظهرية بل قل فاجرة، غالباً ما تكون سلطة المال خفية ومراوغة لا تظهر على المسرح كقوّة جماعية إلّا عند التحديات الكبرى والأزمات، عندما تعجز السلطة السياسية عن تدبير مصالحها. لكن الباحث أعطانا، من غير قصد، أدلّة قاطعة على مدى تمركز الملكيّة والقرار في القطاع المصرفي، حيث تسيطر أكبر ثلاثة مصارف على 45 في المائة من إجمالي أصول القطاع. وأكد الطابع المركزي للرأسمالية اللبنانية، حيث تنتمي تلك العائلات الثماني إلى ثلاثين عائلة من أصحاب شركات الهولدينغ التي تشكّل النواة الصلبة للأوليغارشية المسيطرة على قمم الاقتصاد في المال والصناعة والتجارة، والخدمات، والأغذية، وتمثيل الوكالات الأجنبية، والعقارات والإلكترونيات والصحافة والسياحة والاصطياف وغيرها. (راجع طرابلسي، «الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان»، 2016)

المال سلطة

ما تغطّي عليه مقولة «رأسمالية المحاسيب» - المهووسة بالسلطة السياسية - أن المال سلطة بذاته. هكذا كان منذ أن كان مالٌ. وقد استفحل المال في العهد النيوليبرالي كما لم يفعل في أي وقت مضى. أما الجمع والخلط والتقاطع بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية فبلغ أيضاً أعلى مستواه عندما خلقت سياساتها مسوخاً أمثال «الأوليغارش» في أوروبا الشرقية باتت عاجزة عن السيطرة عليها.

ولكن هذا لا ينهي البحث في العلاقة بين سلطة المال وسلطة السياسة بل يفتحه على مصراعيه. فيما السلطة السياسة علنية ومظهرية بل قل فاجرة، غالباً ما تكون سلطة المال خفية ومراوغة لا تظهر على المسرح كقوّة جماعية إلا عند التحديات الكبرى والأزمات، عندما تعجز السلطة السياسية عن تدبير مصالحها. إنها جمعيات التجار وغرف الصناعة والتجارة التي أحبطت المشاريع الإصلاحية لـ«حكومة الشباب» في عهد سليمان فرنجية في العام 1971-1972، عندما هددت بالإضراب في حال إقرار مشاريع قوانين دعم الصناعة واستيراد الدولة المباشر لأدوية الضمان الاجتماعي والإصلاح التربوي. كان التهديد كافياً للتراجع عن المشاريع الوزارية واستقالة الوزراء الذين تقدّموا بها. وسلطة المال، ومَن شرّع باسمها، هي التي فرضت وضع الاقتصاد الحرّ والملكية الخاصة والمبادرة الفردية في مقدمة دستور الجمهورية الثانية، في سابقة نادراً ما وجدت في الدساتير. وهي سلطة المال بعد الحرب التي رسمت كل آليات انتقال لبنان من الليبرالية إلى النيوليبرالية ذات الألوان الميليشياوية-المافيوية. وهي السلطة ذاتها التي أحبطت مشروع الأجر الاجتماعي الذي طرحه الوزير شربل نحاس ومعه مشروعه لزيادة الأجور. وسلطة المال إياها هي التي تسمح لرئيس جمعية تجار بيروت نقولا الشمّاس (أبو رخّوصة) أن يزعق في وجه نجيب ميقاتي، صاحب المليار ونيف، بصفته رئيس الحكومة: «نحن نُطاع ولا نطيع!» في خلال أزمة سلسلة الرتب والرواتب! والانحياز السياسي لسلطة المال هو الذي يحفز سمير جعجع، الذي لم نجد له أثراً في امتلاك أسهم في أي مصرف، لأن يعلن «لقد بدأ عهد التأميمات!» تعليقاً على استدعاء المدعي العام المالي أربعة مدراء مصارف لسؤالهم عن خروج أموال من مصارفهم نحو الخارج! وقد توقفت مساءلة المصرفيين منذ ذلك الحين. حتى لا نتحدث عن أفعال الإيمان التي يكررها سامي الجميل عن «الاقتصاد الحر القوي». ويكفي مراجعة أعمال اللجان النيابية، بقيادة كتل حركة أمل والتيار الوطني الحر والجمهورية القوية، لتكوين فكرة عن خدمة السياسة لسلطة المال مجسدة في جمعية المصارف، من دون أن يبرىء ذلك أي كتلة أخرى وعلى رأسها كتلة الوفاء للمقاومة من التواطؤ والمشاركة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

موقع (صفر) – 10 أيار 2023

عرض مقالات: